مقالات

ربع قرن على وفاة العلامة الشيخ الغزالي عدو الاستبداد والمستبدين

عصام تلمية*
ربع قرن،مرّ على وفاة العلامة الشيخ محمد الغزالي، الذي توفي ّفي 9 آذار(مارس) سنة 1996م، ذلك المفكّر ،والكاتب الكبير، الذي لاتزال كتبه حتى الآن لها أهميتها وثقلها، لما عالجته من قضايا مهمة في حياة الأمة ودينها، والتي طوّف فيها على موضوعات كثيرة، اتّسمت بجرأة الغزالي رحمه الله، وكان من أهم القضايا التي أولاها أهمية: قضية الاستبداد والمستبدين،فقد كان الرجل حربا لا هوادة فيها عليهما، في كتبه، ومقالاته، ومحاضرات، وخطبه.
كانت كتب الغزالي الأولى ،تتناول قضايا الاستبداد، والفقر، والتخلف الذي سببه الأول: حكام مستبدون جهلة، فكتب: الإسلام والأوضاع الاقتصادية، والإسلام والمناهج الاشتراكية، والإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، والإسلام والاستبداد السياسي، أول أربعة كتب كتبها الغزالي،وكلّها من عناوينها،تدلّ على شجاعته في التناول والطرح، وعلى مواجهة الطغاة بمآثمهم وجرائمهم.
منذ أول كلمات كتبها للجماهير،وهو يجهر برفض الظلم، وينأى بالعالم والداعية، أن يتحدّث في غير ما يهمّ الناس،وفي غير ما ينهي مظالم الناس، ففي أول كلمات كتبها في مؤلف قدم للناس سنة 1947، وهو كتابه: الإسلام والأوضاع الاقتصادية،نقرأ هذه العبارات للرجل من مقدّمة الكتاب، وتشعر بعد قراءتها، أنها ليست من شيخ، مقارنة بشيوخ زمانه، يقول:
(لم تستذل – في هذا العصر – شعوب كما استذلت شعوب الشرق، ولم يستغل شيء – في هضم حقوقها – كما استغل الدين؟!
لقد أنطقوه ،حيث يجب عليه أن يسكت، وأخرسوه، حيث يجب أن يرسل الصراخ العالي؛ كما يصرخ الحارس اليقظ، إذا رأى جرأة اللصوص الوقحين!!
وبذلك، أصبحت الأمة مضيّعة، بين استذلال عنيد،واستغلال منافق، وأصبح الدين مسخّرا في ميادين شتى،لتسويغ الحيف، والتقليل من خطره .
ثم ختم مقدّمته الملهبة والموقظة بهذه الكلمات، بعد أن بيّن أن الدين ليس أفيون الشعوب، بل هو موقظ للأمة، وملهب لظهور الحكام الظلمة، فقال:
(يا ضحايا الكبت والفاقة والحرمان.
لقد نزل الدين إلى الميدان بجانبكم، فضمّوا أيديكم في يده.
إن الشفاه التي تأمر بإذلالكم ،يجب أن تُقصَّ، والأوضاع التي تغتال حقوقكم يجب أن تُقصى!
إن الفراغ الذي خامر أفئدتكم تحت وطأة الاستعباد، يجب أن تزال غُمّته إلى الأبد.
ونحن نعلم أن موجات التاريخ الجارفة، وثورات الحياة العارمة، لم تحدث عقيب وقوع المظالم المحرجة، بل بعد الشعور بضرها، والاكتواء بحرها والغضاضة من بقائها..
إن الدين والدنيا للعاملين لا للقاعدين، ولن نسمح بعد اليوم أن يبتاع بالدين في سوق الشهوات، ولا أن يتخذ ذريعة لاسترقاق الأحرار وقهر الشعوب).
ثم قال في كتابه: (الإسلام والاستبداد السياسي)،كارها ورافضا للاستبداد، ومبيّنا موقف الإسلام منه: (لا أعرف دينا صبّ على المستبدين سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم، وأغرى الجماهير بمناوأتهم، والانقضاض عليهم كالإسلام.!!
ولا أعرف مصلحا أدّب رؤساء الدول، وكبح جماحهم ،وقمع وساوس الكبرياء والاشتهاء في نفوسهم، كما فعل ذلك نبي الإسلام).
تلك كانت بعض كلمات الغزالي، والتي كانت تصرّ على تبصرة الناس بالدين الرافض للخنوع، والرافض للذلّة، والرافض للمهانة، باسم السمع والطاعة للحكام، أو باسم الدين، ومخافة الفتنة، تجد هذا الخط واضحا في كتبه، من كتابه الأول، وحتى كتابه الأخير، صرخات وصيحات يطلقها في الأمة، كي تفيق من غفلتها، وتعود لحريتها التي هي حق أصيل لها، وليست منة يمتن بها عليها أحد.
ولم يكتف الغزالي بالقول،بل جمع مع قوله وكتابته العمل، فكم من مرة جاهر بقول الحق، وإن أدّى ذلك إلى دخوله السجن، سواء في عهد الملك فاروق، أو في عهد عبد الناصر، وكاد أن يدخله أيام السادات.
بل ألّف كتابه: (الإسلام والاستبداد السياسي) في المعتقل في عهد فاروق، وقد كان محاضرات ألقاها في المعتقل، ولم يرد أن يكون حديثه عن الصبر على المحن، وهو أمر لا مانع منه، لكن الأولى والأجدر أن يحدّثهم عن نيل الحقوق، والتمسّك بها، لا الصبر على مظالم الطغاة فقط، وكأن الاستبداد قدر على هذه الأمة.
وفي عهد عبد الناصر، حين كتب يدافع عن الإسلام، ضد خنق حرياته،فكتب كتابين الأول بعنوان: كفاح دين، والآخر بعنوان: الإسلام في وجه الزحف الأحمر، في الأول كشف كم الهجوم على المساجد وهدمها، وهو ما نراه في دولة العسكر للأسف، وأتى بإحصائيات لمساجد هدمت في القاهرة وحدها، سواء الفاطمية أو الحديثة، والكتاب الآخر، تحدّث فيه عن الشيوعية، وخطرها الاعتقادي، وموقفها من الحريات.
ورفضت الرقابة نشر الكتابين، وتم التحقيق معه عن طريق النائب العام، فقال له المحقق ناصحا: يا شيخ غزالي، إن الشيوعيين الآن متحكّمون في البلد، فلا داعي لأن تكتب ما يضرّك، فاسحب الكتابين خير لك من نشرهما، فقال له الغزالي: هل ذكرت شيئا ليس حقيقيا؟ فقال المحقّق : لا، كل ما ذكرت حقيقي، ومنقول من إحصاءات الدولة الرسمية.
ولكن ليس كل صحيح يسمح بنشره من السلطة، ثم توجّه للغزالي ناصحا: يا شيخ غزالي، انجُ بنفسك، ولا تستعدي هؤلاء الظلمة عليك.
فقال الغزالي كلمة تدّل على حياة الرجل للإسلام، وبالإسلام، فقال: بئست الحياة، أن يفنى الإسلام، ونبقى نحن!!
رحم الله الغزالي الذي عاش ومات كارها للاستبداد والمستبدين، وقد ردد عند خروجه من المعتقل أيام فاروق، وعندما أعطي جائزة الملك فيصل، وفي مواضع كثيرة، في السراء والضراء آية من كتاب الله كان يستحضرها دائما، وهي قوله تعالى: (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) القصص.

*باحث إسلامي مصري

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق