مقالات

عبدالستار قاسم… المفكّر الحر والصلب

د. أسامة أبوارشيد*

رحم الله،الأستاذ الدكتور عبد الستار قاسم ،أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، والكاتب والمحلّل السياسي الفلسطيني المعروف، والذي وافته المنية اليوم متأثّرا بإصابته بفايروس كورونا.
كان عبد الستار قاسم ،مناضلاً فلسطينياً صلباً، لا يساوم في المبادئ ولا عليها. كما كان نموذجاً للمفكر الحر ،الذي لا يخضع لقوالب تنظيمية، ولا سقوف إيديولوجية، ولا تحيّزات سياسية. وكما كانت الخصلة الثانية (نموذجاً للمفكّر الحر) ميزة عنده، فإنها قد تكون قادت إلى سلبية (في رأيي الشخصي) في موقفه من الثورة السورية، على الرغم من أن منطلقه كان ليس تأييداً للنظام، وإنّما الحفاظ على مركزية التناقض الاستراتيجي مع إسرائيل، لا الدخول في متاهات الاستنزاف الداخلي.
لم أتفق يوماً مع الدكتور في مسألة ضرورة غض الطرف عن جرائم “محور المقاومة” ،الذي يضم إيران وحزب الله والنظام السوري، بذريعة إبقاء الجهود مركّزة على “التناقض الاستراتيجي” في فلسطين. وكنت ولا زلت ممن يقول : إن الفساد والقمع والدكتاتوريات العربية هي مكمّل ومعضّد لمحور “التناقض الاستراتيجي”. ولا يمكن أن تصير فلسطين حرّة في حين إن عمقها الإنساني والديني والثقافي والديموغرافي يعاني من الاستبداد والطغيان.
ومع ذلك، لست من النوع الذي يختزل الناس في موقف ،أو يصدر عليهم أحكاماً بسبب خلاف في الرأي. الدكتور عبد الستار كان قامة نضالية وفكرية يانعة. رجل لم تكسر إرادته الضغوط والمحن، ولم تلن عزيمته في معتقلات الاحتلال أو السلطة الفلسطينية. تعرّض لاعتداءات عنيفة شتى، حُرقت سيارته، نجا من محاولة اغتيال بأعجوبة، ومع ذلك لم يتراجع يوماً قيد أنملة عن الصدع بما يؤمن به. ذلك هو نموذج المفكّر الحر في زمن أدعياء التفكير من عبيد المال والجاه والسلطان والزيف.
لقد أتيح لي منذ سنوات طويلة شرف العمل الأكاديمي مع الدكتور، وتعلّمت منه كثيراً. لم ألتقه مباشرة يوماً، فلا هو كان يستطيع مغادرة فلسطين المحتلة، إذ كان ممنوعاً من السلطة وإسرائيل، ومطلوب لدى كثير من الأنظمة العربية، ولا أنا أستطيع الدخول إليها (فلسطين المحتلة). ولكنني كثيراً ما تشرّفت بلقائه في برامج تلفزيونية أو ندوات عبر الإنترنت، وكان دائماً ذلك الرجل صاحب الطرح العميق، المتواضع مع الآخرين، والمبدئي جداً في مواقفه، بشكل يصل الجذرية.
وكلمة إلى من يبالغون في تقديس الأفراد والهيئات والتنظيمات والتيارات، ونقيضهم ممن يختزلون كل ذلك في موقف أو رأي يخالفونهما. لا يوجد شخص بعد محمد عليه الصلاة والسلام معصوم، ويعرف الرجال بالحق، ولا يَتيهُ الحق إن تاه الرجال. ونحن عندما نحاكم شخصاً ما ،فإننا نحاكمه في سياق قوله وعمله الأعم والأشمل، وليس من أراد الحق فأخطأه، كمن أراد الباطل فأصابه. أيضاً، لو كنا مِصرّين على اختزال كل إنسان في موقف ورأي لا نؤيدهما، لما بقي فينا امرئ يستحق أن ينظر في وجهه أو يحترمه الآخرون، فلسنا ملائكة ولا منزّهين عن الأخطاء والزلل، ومن كان بلا خطيئة فَلْيَرْجُمْ!
طبعاً، ما سبق لا يشمل من أيّد سفك دماء الأبرياء ،والانقلاب على إرادتهم وسحق الشعوب، وفيما أعلم لم يكن الدكتور من هؤلاء أبداً، ولكنه تأوّل في مقاربة موقف ،ضمن سياق فهمه لمعركة الأمة الكبرى.هنا قد نختلف مع بعض طرحه، ولا ننزّهه عن ارتكاب خطأ، بل ولا نتردّد في نقد موقفه ذاك، ولكننا أيضاً لا نلغي تاريخ الرجل ونضاله الفكري ضد الاحتلال الصهيوني والطغيان العربي. ذلك هو التوازن المطلوب، فلا إفراط ولا تفريط، ولا تقديس ولا تحقير، وإنما إحقاق للحق ضمن أسس ومعايير موضوعية.
رحم الله الدكتور عبد الستار قاسم، وَصَبَّرَ أهله ومحبيه، وعوّض فلسطين صوتاً وطنياً واعياً آخر.

* كاتب فلسطيني

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق