مقالات

تشريح “أمريكا”: مقدّمة “وصفيّة” لـ”تشريح التّشريح”…(1)

د.نارت قوخان*

يشرِّح الباحث الأمريكيّ “أناتول ليفن” القوميّة الأمريكيّة ،في كتابه:”America Right or Wrong: An Anatomy of American Nationalism”، المترجم إلى العربيّة، بعنوان “أمريكا بين الحقّ والباطل”،إلى مجموعة من “الثّنائيّات الضّدّيّة”، أو “أطاريح” و”أطاريح مضادّة”، جرياً على تقاليد “الفلسفات المثنويّة” العابرة للهيجيليّة والماركسيّة والبنيويّة.
فيرى أنّ “أمريكا” تاريخاً، وتأسيساً، وواقعاً، ومستقبلاً تتنازعها أطاريح متضادّة، ومتصارعة، لا يُمكن “اجتماعها”، بل لا بدّ من تفكيك واحدة لصالح الأخرى.
فيرى أنّه يوجد في “أمريكا” من تداعب مخيّلتهم أحلام “الإمبراطوريّة الأمريكيّة”؛ أي تلك القوّة الّتي تسعى لنشر “حضارتها”، ورؤيتها للكون والحياة والإنسان، على أرضها، وأرض العالم كلّه إيماناً بـ”عقيدة” ما يُسمّى “الاختيار العقلانيّ- Rational Choice” الّتي ترى “الفردانيّة” و”الّليبراليّة الرّأسماليّة الأميركيّة الاقتصاديّة والفرديّة” نماذج نهائيّة وشموليّة يجب تطبيقها في العالم أجمع، إيماناً بصلاحيّتها للعالم أجمع، وهذا “الإيمان” شبه الدّينيّ، كما يُسمّيه المؤلّف، تدعمه مجموعة من “الأساطير الأمريكيّة القوميّة”؛ كـ”الطّيبة المتأصّلة بأمريكا”، و”حسن النّيّة”، و”حتمية انتصار أمريكا على كلّ من يُعاديها”؛ لأنّها “النّموذج النّهائيّ” و”الوحيد” لـ”العدالة والحداثة والتّطوّر”، والتّمثيل الواقعيّ لكلّ معتقدات “الخلاص” الإنسانيّ.
وفي مقابل هذه “الأطاريح”، وما تستدعيه من “عقائد” و”أساطير”، يتبنّى جزء كبير من “الأمريكيّن” منظوراً آخر لـ”أمريكا”، إنّه منظور “الإمبرياليّة الأمريكيّة”؛ أي السّعي لتوسيع “نفوذ أمريكا” في العالم، نفوذا سياسيّاً واقتصاديّاً، يوظّف “أحلام الإمبراطوريّة الأمريكيّة” توظيفاً “براجماتيّاً”، لا يرى الحاجة إلى ضرورة “الإيمان بها”، أو “إقناع الآخرين” بها، بل يكفي “فرضها” على “العالم” بشرط تحقيقها “النّفوذ الأمريكيّ”، وهؤلاء يرون العلاقة بين “الفردانيّة الّليبراليّة والقيم الرّأسماليّة” و”أمريكا” علاقة “وظيفيّة سياقيّة”، فرضها التّاريخ والظّروف السّياسيّة، لا علاقة “حتميّة بنيويّة” بينهما.
وداخل كلٍّ من هذين المنظورين، أو الأطروحتين، تتوالد أطاريح متضادّة أخرى، فداخل “المؤمنين” بـ”الإمبراطوريّة الحضاريّة الأمريكيّة”، تجد من لا يريد نشرها في “العالم”، ولا إقناع العالم بها، ولا حتّى فرضها؛ لأنّ هذا “المنجز الحضاريّ”! خصوصيّة “أمريكيّة”، و”خلاص عقلانيّ”، ولكنّه “اصطفائيّ” لا يُتاح إلا للفئة “المحظوظة” الّتي هجرت “العالم القديم”؛ لتؤسّس “عالمها الجديد”.
وداخل المؤمنين بـ”الإمبرياليّة الأمريكيّة” تجد من يؤمن بأنّ بنية “النّفوذ الاقتصاديّ والسّياسيّ”، واكتمال “الرّأسماليّة الّليبراليّة” مشروط بمركزيّة “الحاضنة الأمريكيّة”، بما تكون عليه، أو بما صارت عليه، يقابلهم من لا يرى ذلك، ويرى العلاقة “وظيفيّة” –كما مرّ- لذلك ليس من مقاصدها الحفاظ على “حالة أمريكيّة” واحدة و”مُأسطرة”، بل يرونها “ظرفاً براجماتيّاً”، لا يزال مفيداً للرّأسماليّة، ولكنّه ليس ضروريّاً ضرورة وجوديّة لها.
وداخل هذه الأطاريح، والأطاريح المضادّة، يرى المؤلّف أنّ مفهوم “القوميّة”، أي قوميّة، لا يكون فاعلاً إلا بشرطين:

-أساطير مؤسّسة لها، لا تزال حاضرة وحيّة.

-أحلام، ووعود لم تتحقّق بعدُ، تجعل “القوميّة” أطروحة “مثاليّة” لا “واقعيّة”، تفرض على المؤمنين بها “واقعيّة” السّعي الدّائم لها.
ويؤدّي هذا إلى بروز مشكلة كبيرة فرضتها طبيعة “الطّبقات الوسطى الدّنيا” الّتي تميل بشدّة للتّصويت لصالح من يقدّم لها صورة عن ذاتها لا حسب مصالح طبقتها، فتكون “الشّوفينيّة القوميّة” خيارهم، ويمسون مستعدين لـ”القتال” من أجل “صورتهم عن ذاتهم”، الّتي تحلّ محلّ “مصالح طبقتهم”، أو تتلبّس بها.
إنّها اللحظة، الّتي تنطلق فيها “شياطين القوميّة الأمريكيّة” بلا قيد ولا عقال؛ لتدوس بأقدامها “أحلام القوميّة الأمريكيّة”، و”أساطيرها” ،الّتي لا يُمكن لها أن تقيّد تلك الشّياطين لتتحرّر هي إلا بالقضاء على “التّخوم الأمريكيّة الدّاخليّة”، وليس القضاء على “تقاليد التّخوم”، وحسب، ومفهوم “التّخوم” ينطلق من النّظر إلى التّقسيم الجهاتيّ لأمريكا: الغرب الأمريكيّ والشّرق الأمريكيّ، والجنوب والشّمال، والوسط، ليس بوصفه تقسيماً “جغرافيّاً وتوقيتيّاً”، بل تقسيم سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ واقتصاديّ وعرقيّ.

أستاذ جامعي أردني*

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق