مقالات

الشعبوية ليست شتيمة

أسامة غاوجي*
الشعبوية ليست شتيمة،أو بدقّة أكبر، ما تشتمونه ،بأنّه شعبويّ ليس شعبوياً أصلاً!
التمييزات مشهورة بين الشعبية الجماهيرية والشعبويّة.لنقل إنّ الثانية مرذولة، ولنحتفظ لها بالخصائص التي نهضت هذه المفردة لحملها حين نهضت: خطاب يمثّل “الشعب” بوصفه خيراً محضا في صراع -متخيّل أو حقيقي- مع مؤسسات نخبويّة لا تسمح للإرادة الشعبية “الديمقراطيّة” بالتعبير عن نفسها. اقترنت الحركات “الشعبويّة” بحق مع مجموعة من الممارسات الخطابية والسياسيّة، التي باتت توصف هي الأخرى بأنّها “شعبويّة”: التعبئة الجماهيرية، نبرة الخطاب العاطفي، استعمال الرموز الدينية والقومية والثقافيّة، رفع سقف الطموحات الشعبية، الخروج عن القواعد المتعارف عليها في الخطاب السياسي، وأخيراً وليس آخراً: الكذب.
باستثناء “الكذب”، كلّ الممارسات الأخرى ممارسات ضرورية وحتاجها في حركة التغيير والتحرر. نحتاج إلى القائد الذي يستطيع أن يرسم أملاً أبعد من لعبة الهوامش المديدة، ونحتاج إلى خطاب يستطيع أن يحشد إرادة الناس للفعل والتضحية، ونحتاج كلمات تجرح وتشفي وتتحدى، كلمات من نحاس لا من غبار.
نعم، هناك مخاطر حين يرتفع الخطاب السياسي ويحتشد،ولكنّ المخاطر التي خبرناها في سنوات الضجر الدبلوماسي،كانت أفدح وأدوم وأقتل. هناك خطر حين تلهب عواطف الناس،وترفع لهم أملاً ممكناً في جيلهم،ولكنّك إن فعلت ذلك بحكمة وفي اللحظة المناسبة، ستجعل هذا الخطر خطراً على عدوّك بالأساس.
موضة ذمّ “الشعبوية” ليست نوعاً من الكسل التحليلي، بل نوع من كسل الإرادة وعجز الخيال السياسي. ثمّة من لم يعد يطيق الخيبة مرة أخرى، ولذلك فإنّه يفضّل قتل الأمل في مهده، حسناً، هذا مفهوم، واسمه “حذر” لا “حكمة”.
بشيء من التجوّز، ما وصف بأنه “شعبوية مذمومة” في الغرب، كان خروجاً عن “وضع قائم” أنجز شيئاً من وعود الرفاه والعدالة والمساواة الداخلية: ثمة دول بمؤسسات مستقرّة وفعالة كانت تأمل بأن تحافظ على هذا الاستقرار لأطول أمد ممكن، كانت تأمل بـ “مدراء” (لا قادة) بلا وجوه ولا أسماء، يقودون الدفّة من وسط اليمين إلى وسط اليسار بهدوء لا يعكّر صفو أحد. جاءهم اليوم من يعكّر هذا الصفو، لأسباب وجيهة أو غير وجيهة، لا يهم.
عندنا، الاستقرار هو استقرار الخراب والظلم والقمع والمهانة الدامية. والقيادة الشعبوية ضروريّة لهدم الهدم وقطع المراحل وتعبئة الجماهير لنيل المشتهى. بلغة أقلّ درامية: قد تكون “الشعبوية” خطرة على دول أنجزت مشاريعها واستقرّت على أهرامها؛ ولكن، لكي تصعد الهرم، أو على الأقل، لكي لا يكون شعبك هو طبقة العمال المسحوقين تحت الهرم، تحتاج من يمسك بالكلمة كالسوط ويحفز الإرادة، ويؤكّد جدارته بالعمل والإنجازات.
ولذلك يا عزيزي، إن شعرت بدفقة من عاطفة الانتصار الممكن، لا تخف، ولا تسرع إلى معجم الذم “الشعبوي” لتستعيد توازنك الواقعي. استسلم لمرّة لهذه العاطفة، وتذكّر أنّك واحد منا، نحن البسطاء الذين نريد شمساً عالية وكريمة، هذا حقّنا، وهذا واجبنا.
صلوا على رسول الله محمد الذي عرف وعرّف واجب كلّ وقت: أخذ أبو دجانة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقّه يوم أحد، وخرج بعصابة الموت الحمراء يتبختر بين الصفين مرتجزاً، ورسول الملحمة والمرحمة يقول لمن معه: “إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في مثل هذا الموطن”.
*تعرفون أيضاً أنّ أبا دجانة في هذه الغزوة،وهي غزوة أحد، وبعد جولة “فلق فيها هام المشركين” كما يقولون، لقي هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وكانت ترتدي زيّ الفرسان، فلم يعرفها، فلما أوشك على قتلها ولولت، فعرف أنّها امرأة، فأمسك سيفه وانصرف.
هذه “شعبويتنا” العظيمة، وبها نفاخر

*كاتب وباحث سوري

(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق