منذ أن تم طرح المشروع الصهيوني في فلسطين مع نهاية القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، توالت الثورات والمشروعات الثورية في فلسطين من البراق إلى منظمة التحرير وتنظيمات القوميين العرب، وصولا لحركات المقاومة المعاصرة التي يغلب عليها الطابع الديني، ذلك أن طبيعة الكيان الصهيوني تخلق نقيضه في كل فترة، يتغلّب عليها لكنه يفاجأ ببروز نقيض متواصل له ، قد يختفى الشكل، لكن المضمون باق وهو المقاومة. وفي إطار السياق السابق، ظهرت مجموعة ” عرين الاسود” التي جذبت الأضواء اليها، وشكّلت تحديا جديدا للاحتلال، لكن بروز هذا التنظيم وأهدافه وعمله وبرنامجه السياسي ، ما زال ملتبسا لدى الباحثين ،بل وربما لدى المحقّقين الأمنيّين ،بمن فيهم ” إسرائيل” وسلطة التنسيق الأمني الفلسطينية، ويكفي أن نتوقّف عند الملاحظات التالية: 1- المجموعة : لا يوحي الاسم “عرين الاسود” إلى هوية سياسية واضحة، من حيث التوجّه السياسي أو البرنامج الاستراتيجي والمرحلي ، فهو تعبير شعري تحيطه النشوة ، وقد يبدو لذلك تفسيران : أ- إن التنظيم تعبير عن تجمّع لمناضلين ينتمون لتنظيمات مختلفة ،وإطلاق اسم “عرين الاسود” هو محاولة لتجاوز أي تسمية توحي بأن التنظيم امتداد لأحد التنظيمات المقاومة القائمة حاليا ،أي أن التسميّة “محايدة” آيديولوجيا وتنظيميا وموحية بقدر من الاستقلالية عما هو موجود من تنظيمات ، لكن شعار المجموعة يشير إلى بعض ما يمكن تلمسّه، فالشعار عبارة عن ” هلال- يتوسّطه المسجد الاقصى ويعلوه رشاشان متقاطعان على شكل اشارة ×” وبتحليل إيحاءات الشعار، يتبيّن أنه يغلب عليه الطابع الديني(الهلال والاقصى)، وطابع إعلاء مكانة السلاح في توجّه المجموعة ،بمعنى تبنّي خيار المقاومة المسلّحة، وليس هناك ما يمنع من التحاق عناصر من تنظيمات مقاومة مسلحة أخرى غير دينية، فقوائم شهداء العرين يشير إلى أن البعض منهم ،كان في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين( مثل الشهيد محمد طبنجة الذي استشهد في الشهر الثامن من هذا العام)،ولكن ما يستحق التأكيد عليه هو البرنامج السياسي، فهل هم مع دولة فلسطينية إلى جانب “إسرائيل” أم مع تحرير كل فلسطين؟ ما موقفهم من منظمة التحرير؟ إو من حزب الله أو إيران أو الدول العربية …الخ..؟ كل ذلك يصعب الإجابة عليه. ب- لكن الاسم بحد ذاته، يوحي أنه أقرب لتسمية الخلايا الثورية ،فالتنظيمات القائمة كانت تصدر بياناتها بطريقة تبدا بعبارة ” قامت مجموعة الشهيد فلان..أو قامت مجموعة سحب الجحيم، أو المجموعة رقم كذا…الخ، فإذا كان الحال كذلك ،فهذا يعني أن تنظيما يقف وراء هذه المجموعة، لكنه لسبب سياسي أو عملياتي أو تكتيكي لا نعلم خفاياه يمتنع عن إيجاد علاقة بينه وبين “العرين”. والمعلومات المتاحة حتى الآن،أن التنظيم هو تجمّع لوحدة تجمع كتائب الاقصى والجهاد وحماس، وكان للشهيدين محمد العزيزي ،وعبد الرحمن صبح دور مركزي في تشكيل التنظيم. 2- نشاطات التنظيم : من المؤكّد أن عام 2022 شكّل حراكا نوعيّا في الضفة الغربية لمقاومة الاحتلال، ويبدو أن” إسرائيل” وسلطة التنسيق الأمني استشعرا ذلك مسبقا ، وقبل اكتمال التنظيم الإعداد للإعلان عن نفسه،إذ إن التنظيم تلقّى ضربات مؤلمة خلال الفترة من فبراير 2022 – مرحلة الاعداد للإعلان عن التنظيم- إلى إعلانه رسميا بعد الشهور السبعة اللاحقة، فقد تلقّى التنظيم هجمات إسرائيليّة بالتنسيق السري والعلني مع سلطة التنسيق الأمني أدّت إلى : أ- في شباط(فبراير) 2022 ، قامت “إسرائيل” باغتيال ثلاثة ممن وصفوا أعضاء في كتيبة نابلس. ب- في تمّوز (يوليو 2022) ، قامت ” إسرائيل” باغتيال 2 من كتائب شهداء الاقصى التي ساهمت في التنظيم. ت- في الشهر الثامن من نفس العام الحالي، تم اغتيال اثنين آخرين من كتيبة نابلس ،بعضهم ينتمي لحماس(مثل مصعب اشتية)،والبعض الآخر للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين(محمد طبنجة). ث- في تشرين أوّل (اكتوبر)٢٠٢٢، اغتيل قيادي آخر (تامر الكيلاني) ، وبعدها بيومين اغتيل قيادي آخر( وديع الحوح) ج- في تشرين أوّل ( أكتوبر) ٢٠٢٢، وبعد اغتيال الكيلاني بيوم واحد، أعلنت “إسرائيل” عن اعتقال ثلاثة وصفتهم بأنهم من “عرين الأسود”. ح- وبعدها بأيام قليلة، تواترت أنباء عن تسليم خمسة من عناصر التنظيم أنفسهم لسلطة التنسيق الامني الفلسطينية. وتكشف المعطيات السابقة،أن التنظيم ليس محكما، وفيه ثقوب تنظيمية تُطِلُ الأجهزة الاسرائيلية وسلطة التنسيق عليه منها، فبعد أن تم الاعلان رسميا عن تشكيل “عرين الأسود” في أيلول( سبتمبر) 2022 ،وبعدها بحوالي 3 أسابيع ،تم اغتيال قيادي آخر من قبل” إسرائيل” ثم اعتقال آخر من قبل سلطة التنسيق الأمني.. خ- إن نشاطات التنظيم تختلط ببعض العمليات والهجمات على المراكز الإسرائيليّة والمستوطنين، فمن العسير الربط بين التنظيم والهجمات في الخليل، أو قرب الأغوار، أو حول رام الله، أو في بعض القرى والبلدات في النبي صالح أو ديرجرير أو قراوة أو سلفيت …الخ. ويبدو أن التنظيم يقوم ببعض النشاطات ،لكنه يقتات أيضا على عمليات ليست له ،ويقوم بها أفراد غير مرتبطين بجهة معينة ، لكن تصدّره المشهد، يجعل نسبة العمليات ككل إليه من قبل الشارع الفلسطيني والعربي أسهل . 3- يبدو أن تسمية الكتائب التي شكّلت أساس التنظيم ، تكاد أن تحدّد التمدّد الجغرافي للتنظيم، فنجد تسميات مثل : كتيبة جنين و كتيبة نابلس وكتيبة طولكرم…الخ ،لكنها تتركّز كلها في شمال الضفة، وهو أمر قد تكون فرضته ظروف موضوعية ،لكن عدم انتشار التنظيم قد يجعل الحصار عليه من قبل السلطات الاسرائيلية وسلطة التنسيق الأمني أكثر يسرا. 4- يبدو لي أن الخطاب التنظيمي الصادر عن التنظيمات الفلسطينية القديمة، أو الكتابات الفلسطينية وبعض العربية التي تساند “عرين الأسود” بحاجة إلى قدر من العقلنة والاتزان، فمع كل تقدير لهذا التنظيم ،فإن البعض من التنظيمات القديمة ومسؤوليها راحوا يتلطْون بنشاطات هذا التنظيم لستر قصورهم الفعلي عن تأجيج المقاومة في كل مكان من الارض المحتلة بخاصة 1948 والضفة الغربية.. أخيرا ، تشير بعض الكتابات الإسراأيلية ( رونيت روزين من جامعة حيفا أو روغل الفير من الكتاب الصحفيين..الخ) إلى أن هناك من ربط بين طبيعة الاحتلال وردّات الفعل عليه، وهناك من توقّع انتهاء الظاهرة سريعا، وهناك من أوصى بزيادة دور التنسيق الأمني لمحاصرة الظاهرة، وهناك من يتّهم ايران وحزب الله في تمويل هذه العمليات التي يقوم بها التنظيم…الخ من تحليلات يصعب التوثّق من دقتها أو البناء عليها لفهم المشهد بشكل أعمق ، لكن المؤكّد أن التنظيم خلق صورة أظنّها حتى الآن مهمة، لكنها تنطوي على هواجس يجب التحوّط عندها، وليس الآن وقت طرحها..فمن مأمنه يُؤْتَى الحَذِر.