د.عبد الحي عباس*
حين تبلغ الخامسة والثمانين،كما أنا اليوم، يصبح من الصعب أن تتجاهل قرب انتهاء رحلة حياتك، بحلّها وترحالها، بسعادتها وشقائها.روايتك في آخر فصولها،وقريبا تُسدل الستارة، تُفارق أهلك وأصحابك، شهاداتك التي حصلت عليها بتعبك وسهرك، حساباتك في البنوك، أوراق وصور ذكرياتك الغالية.
في الخامسة والثمانين،تقيّم الأشياء والأحداث بشكل مختلف، ربما أقرب إلى قيمها الحقيقية في خاتمة المطاف، وتتساءل وتعجب كم كان تقييمك لكثير من الأمور في سابق أيامك خاطئا أو مبالغا فيه إيجابا أو سلبا، لم تدرك عندها أنها عما قريب، ستصبح تاريخاً من الماضي ثم تذوب.
في الخامسة والثمانين، وفي ساعة تأمّل، تتساءل: لم كنت تحمل كل هذه الأثقال التي ستتركها خلفك؟ وهل أمضيت عمرك فيما يستحق، وماذا ستحمل من حصاد حياتك في محفظة رحلتك الأخيرة؟
أنا آمنت علمياً بخالق لهذا الكون والإنسان، وبحياة آخره، وبحساب عادل: إليكم كيف:
درست الطب مهنة، عرفت بنية الإنسان من أعضاء وأجهزة، وكيف تقوم بعملها،ثم قرأت ما استطعت عن فيزياء الذرة والكوانتا، وعن بنية الكون ومسيرته وتوسّعه منذ الانفجار الكبير ( Big Bang)، وما يحوي من نظام محكم مدهش. كلاهما، الكون والإنسان، لا بد أنهما يتشكّلان ويعملان حسب مخطط مسبق لأدق التفاصيل. يقول العالم الفلكي الإنكليزي جيمس جينز ( James Jeans ):(يبدو أن الكون قد خُطط من قبل عالم رياضيات، ذلك لأن قوانينه تخضع لمعادلات رياضية…… وربما تعود كلها لقانون واحد) ويقول العالم الفيزيائي بول ديفيس ( Paul Davies): (لا بد من وجود مخطط يسير عليه الكون كما هي خارطة الجينات في الحياة. هل هذه الوحدات التي يُبنى منها الكون كتبت مخططها لذاتها؟). أقوال العلماء التي تُشير إلى مهندس لهذا الكون بازدياد واضح، بعد ما رأى الإنسان مدى ما في هذا الكون والإنسان من تنظيم. ” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” فُصّلت٥٣.تنظيم هذا المخطط وتنفيذه، بما يحوي من عناصر متغيّرة كثيرة جدا (Variants)،يجب أن تأتي في المكان والزمان والترتيب المحدّد لها (كما في تشكّل الجنين مثلا فلظهور أجزائه في أماكنها وفي الزمن المحدد لها وبترتيب محدد هناك خارطة فيها حوالي ٣ بليون حرف)،يجعل القول بحصول هذا التنظيم والتنفيذ مجرّد مصادفات، يتناقض إلى حد كبير مع المعادلة الرياضية لاحتمال حصول مصادفة ما، حيث وجود عشرة متغيّرات فقط ، يجعل احتمال حدوثها مرتبة واحدا من عشرة بلايين!
يجيب البعض أن مرور الزمن الطويل،قد يبرّر حصول المصادفات التنظيمية. هذا يتناقض مع القانون الثاني في فيزياء الحرارة والميكانيك (Thermo-dynamic)،ويدعى بقانون إنتروبي (Entropy)، وهو قانون معقّد، مختصره أن الزمن،هو عامل زيادة في الفوضى وليس في التنظيم، ومحور الإنتروبي يسير مع محور الزمن منذ أن نشأ الكون، لو تركت منزلك عشرات السنين، ثم عدت إليه لما وجدته أكثر نظافة وترتيبا، ولو تركت كوما من الحجارة ما شئت من السنين،فلن تعود لتجدها بنت قصرا جميلا متقنا بذاتها! هذا ما حصل في الكون بعد الانفجار الكبير وبشكل أكبر وأتقن بكثير.
فقولنا إن ما نراه من تنظيم في الكون والإنسان، حدث بمجرّد مصادفات أحدثها طول الزمن،يناقض القوانين العلمية للرياضيات وللفيزياء. هناك تخطيط يفقأ العين، وليس له أن يُخطط ذاته. قال العالم الشهير ديكارت (Descartes) المعروف بذكائه: (إن الرياضيات والفيزياء،هي التي توصل لمعرفة الإله وليست علوم الدين)، وقال نيوتن (Newton):(حتى ولو أن الأرض والكواكب تدور في مداراتها بحسب قانون الجاذبية،فإنه ليس من الممكن القول إنها وجدت مداراتها بذاتها، لا بد أنها بدأت بسلطةِ ورأيِ كائن ذكي قوي. المادة هي جسم عاطل لا يتحرّك ويتطوّر إلا بتأثير قوة خارجة عنه)، وقال: (إن العلم هو الطريق الوحيد لإدراك الإله)،ويقول آينشتاين ( Einstein) :(الإيمان هو أقوى نتائج البحوث العلمية وأنبلها). هؤلاء هم أذكى أذكياء العالم.
وأما عدم قدرتنا على إدراك الخالق والعالم الآخر، وهو ما يورده الملحدون حجة، فقد فنّدته المعلومات الحديثة أيضاً كما يلي:
يُجمع علماء الفيزياء، ويقول أستاذ علم الذكاء في جامعة كاليفورنيا (Donald Hoffman) في كتابه الحديث (The Case Against Reality)، إننا نعيش في عالم افتراضي تصنعه حواسنا ودماغنا بعيدا عن الحقيقة. حواسنا، والتي تعمل في عالم الزمان والمكان والأبعاد الثلاثة، تُغذي دماغنا بمعلومات لا علاقة لها بالحقيقة. معلومات هي من صنعها، تساعد في قدرتنا على البقاء (الداروينية). الألوان من صنع عيوننا، وهي ليست إلا موجات مختلفة الطول ما بين الأحمر والبنفسجي، ومن يخلق بعمى ألوان ليس عنده أحمر ولا أخضر.
والأصوات أمواج أطول من تلك تجعلها آذاننا أصواتا مختلفة النغمات، ومن خُلقوا بصمم خلقي لخلل في آذانهم (وهم كثيرون)، ليس في عالمهم أصوات ولا موسيقى ولا غناء، ومثال آخر على بعد المعلومات التي تعطيها حواسنا عن الحقيقة، هو شعورنا بأن الأرض ثابته، هي تدور وتدور، وأسرع حركاتها ٦٠٠ كم في الثانية! وحديثا اعتقدالعلماء أن الزمان والمكان اللذان يرتبطان ببعضهما (آينشتاين) هما أيضا وهم من صنعنا؟ علومنا هي نتاج معلومات حواسنا وأدواتنا ودماغنا ،وهي لذلك محصورة في هذا العالم الوهمي المحدود، وليس لها أن تخرج منه لأن أبجديتها منه. يقول( ( Chomsky عالم الاجتماع في هارفارد: “هناك حدود للفهم الإنساني”. دونالد هوفمان، يوافق قول تشومسكي، ثم هو يبيّن، كيف أن كل منا يعمل كما يعمل الكومبيوتر، حواسنا فيه هي سطح التماس (Interface ) والأشياء التي نراها أو نسمعها هي الأيقونات ( Icons )، والزمان هو شاشتنا (Desktop )، لا علاقة لنا بالحقيقة. يقول (John Wheeler ) عالم الفيزياء في جامعة برينستون :”لا شيء مما نعرفه هو حقيقة مطلقة، ويبدو أننا نحن الإنسان جزء من مخطط عظيم نرى منه لمحة صغيرة ولا نراه بكلّيته”. ويقول Carlo Ravalli)) الفيزيائي الإيطالي: “هل أن كل ما نعرفه هو مجرّد إشارة إلى ما هو أعمق في تركيب الكون، تركيب لا نستطيع تصوره “. إذا كانت معلوماتنا محدودة بحكم محدودية مصادرها، ووهمية بحكم وهمية مفرداتها، فكيف لنا أن نتصوّر الخالق. ” وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”. لا بد إذا من وجود مهندس ليس لنا أن نُدركه. نراه في مخلوقاته، كل يعزف دوره في سمفونية الكون (طاغور).
وأما الحياة الآخرة:
يقول هوفمان في كتابه،إن فينا شيء آخر غير مادتنا التي تعمل حواسنا ضمن عالمها، فينا وعينا لذاتنا ومشاعرنا. جسمنا المادي يتكوّن من وحدات البناء ذاتها التي تتكوّن منها كل الأشياء المادية حولنا، وحدات البناء ما تحت الذرية ( الإلكترونات والنوترونات …..) تجتمع بأشكال مختلفة، وتتعامل بقوانين فيزيائية ثابتة،وما الكيمياء إلا فيزياء خفيّة ،لتشكّل منتوجات مختلفة منها الحجارة والشجرة وأنت وأنا والطير.وحدة البناء هذه لا تملك وعياً للذات ولا مشاعر، واجتماعها، مهما كان شكله، لن يستطيع أن يعي ذاته ولن تكون له مشاعر! ولذلك يقول هوفمان، وآخرون، إن فينا شيء آخر ذو بنية مختلفة، له وحدة بناء مختلفة أسماها عامل الوعي (conscious agent)، هو من عالم آخر يختلف في كل شيء عن عالم مادتنا، ولا مجال لمعلومات ناتجة عن حواس وأدوات تعمل في عالم مادتنا أن تعمل في تلك الكينونة. وهو يقول: (لا نعلم عن ذلك الكيان الآخر الذي فينا شيئاٍ ولن نتمكّن في المستقبل. لا ندري ماذا يحصل له عند موت كياننا المادي.) “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” الإسراء ٨٥
أما الحساب والحكم العادل:
يبدو أن الفكرة القائلة، إن كلاً منا حاسوب يعمل بشكل متطوّر عمًا تعمل حواسيبنا الحالية تلقى قبولا متزايدا. إذا كان كذلك، فهل بقي صعباً أن نتصوّر أن كل تصرفاتنا من قول أو عمل تنتقل بشكل متطوّر من الترقيم (Digital coding)، إلى حاسوب رئيسي (أم الكتاب) كما ينتقل الآن إلى حاسوب ال (icloud ) كل ما نضعه على حواسيبنا؟ أصبح قبول ذلك أسهل بكثير عما كان قبلا، وربما سيصبح أكثر سهولة في المستقبل القريب،حين تنتشر حواسيب الكوانتا (Quantum computers). تسجيل أعمالنا وأقوالنا بدقائقها لم يعد صعب التصوّر كما كان.
في حياتنا هذه،يعيش كل منا في صراع بين الأنا والضمير، ضميره يريده أن يلتزم بفعل ما هو خير، وفي مقدمته الشعور مع الآخر والتراحم معه ومساعدته بما يستطيع متحرّرا من العصبية الموروثة بكل مظاهرها وسعتها أو ضيقها، وأناه لا يهمها إلا مصلحة الذات. صراع بين الفجور والتقوى، بين الخير والشر، ولسلوك كل إنسان موقع بينهما.
في الخامسة والثمانين، لا بد من القبول أن الموت قريب، حيث لم يعد كذب آليات فرويد على الذات يعمل كما عمل من قبل، ننتقل إلى العالم الآخر المختلف كليّاعن هذا العالم، عالم ليس فيه بعد الزمان والمكان، فهما من صنع مادتنا، كما يقول علماء الفيزياء والذكاء، فيوم كألف سنة وكخمسين ألف سنه، سنجد أنفسنا أمام حاسوب أسرع وأدق من كل ما لدينا هنا، نُعطى كلمة المرور لتظهر لنا صفحة حياتنا ” ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك ” الإسراء ١٨، ١٩. نجد فيها كل أعمالنا وأقوالنا في حياتنا هذه، ” يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ” الكهف ٤٩، كما هو حال كل ما نضعه على حاسوبنا في حياتنا الدنيوية هذه محفوظة في ال ( i cloud ). قد لا نجد بعضا من أعمالنا الخاطئة في هذه الحياة، ومن منا لا يخطئ، إذ إن توبة نصوحا وعملا صالحا ،يمكن أن يزيلا خطيئة في سجل أعمالنا ” يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ” (Delete and save ) الرعد ٣٩.
أنت هناك في عالم آخر، ليس فيه مكان للأنا التي تركناها هنا، أنت هناك ضمير حر يتفرّد في القرار، تحكم بعدل مطلق ” اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ” غافر ١٧ وليس لديك، وأنت في كينونتك تلك، القدرة على محاباة حتى ذاتك، يقال لك أصدر حكمك على نفسك ” كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا” هكذا يفسرها ٠(Huston Smith) أستاذ علوم الأديان في بركلي ثم في هارفارد سابقا في كتاب له، وتكون النتيجة إما فوزا وسعادة ورضا، تُفاخر بسجلك وتُريه الآخرين ” ها أوم اقرؤا كتابيه ” الحاقة ١٩، أو خسارة وحسرة “يقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه” الحاقة ٢٥،٢٦. تلك ساعة قريبه،فلا زمن هناك، وما هي إلا غفوة ونستفيق “قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا” يس ٥٢.
رسالتي هذه للشابات والشباب، الحياة ستمضي أسرع مما تظنّون، وقريبا تجد نفسك في الثمانينات، وتدرك عندها أنه لم يبق لك إلا القليل، وتتساءل إن كنت قد أمضيت عمرك فيما يستحق، وهل أكثرت مما سيوزن لك هناك ،وفي مقدمته نفع أخيك الإنسان ،وقضاء حاجته خفية ،بحيث لا تدري شمالك ما تنفق يمينك. (فالخلق عيال الله وأحبكم إليه أنفعكم لعياله).
• نقيب أطباء سوريا سابقا
- (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)
زر الذهاب إلى الأعلى