نارت قاخون*
توزّعت مشاعر الأردنيّين وتفاعلاتهم مع أحداث الأيّام الماضية بين فضول شديد لمعرفة تفاصيل الأحداث، وما وراءها، وربّما بفضول أقلّ لتصوّر ما بعدها، والقلق ممّا يسمعون هنا وهناك، والاستهزاء بما يصدر من بيانات، وتصريحات مسؤولين حاليّين وسابقين، داروا على المحطّات الفضائيّة “كعب داير”، وتأييد لتوجّه من توجّهات الأحداث، يقابله تأييد آخرين لتوجّهات أخرى.
ويُمكن تقسيم دوائر الاهتمام والقلق إلى دوائر، تتداخل عند كثيرين، وتقبل الفصل عند آخرين، وهي:
– دائرة الأمير حمزة بن الحسين، وهي الدّائرة الّتي بدت في مركز الدّوائر، فقد بدأ الانشغال الأردنيّ والعربيّ بالأحداث بخبر عن “اعتقاله”، نُفي بعد ذلك بصيغة جافّة نسبيّاً، عُدّلت في وكالة “بترا” لتصير أكثر تقديراً بإضافة “صاحب السّموّ الملكيّ” قبل اسم الأمير، ثمّ جاء تصريح المصدر العسكريّ بأنّ ما جرى هو مجرّد الطّلب من الأمير أن يكفّ عن بعض النّشاطات، ثمّ جاءت فيديوهات الأمير حمزة بالإنجليزيّة والعربيّة ،لتكثّف هذه الدّائرة، لتضعه في حالة حصار يُسأل معها – إن كان أحد يسأل؟!- كيف وصلت فيديوهات الأمير إلى المحطّات الفضائيّة، وهو تحت حصارٍ كما صوّر لنا، أو كما صوّر لي؟
“وبعد كتابة المنشور،انتشر تسجيل ما دار بين الأمير وقائد الجيش”!!!
– دائرة العائلة الهاشميّة، وهي دائرة متزامنة مع الأولى بالضّرورة؛ فلدى المواطن الأردنيّ سيرة من التّجاذب بين الملك عبد الله، والأمير حمزة ،تبدأ من تنحية الأوّل للثّاني عن “ولاية العهد”، وتمرّ عبر العديد من التّغريدات والّلقاءات الّتي تعمّق سرديّة الخلاف والتّجاذب بينهما، مع ما يُضاف لهذه السّرديّة من أخبار، وتخيّلات، ورغبات، ساهم في تبئيرها في بؤرة أحداث الأيّام الماضيّة فيديوهات الأمير، و”لايفات” المعارضة العابرة لحدود الأردن.
– دائرة “باسم عوض الله” ومعه شخص سمع به الأردنيّون لأوّل مرّة، وهو “الشّريف حسن بن زيد”، وهو شقيق ضابط المخابرات الأردنيّ “علي بن زيد” الّذي قُتل في عمليّة مخابراتيّة في أفغانستان قبل سنوات، وهي عمليّة جاهزة لتصير فيلماً تشويقيّاً من غير أيّة إضافة.
لم يتقبّل جُلّ الأردنيّين أيّ ربط بين دائرة باسم عوض الله، ودائرة الأمير حمزة، لارتباط الأوّل في وعي كثير من الأردنيّين، أو خيالهم بالإفساد الاقتصاديّ عبر “الخصخصة”، ثمّ لارتباطه بالشّقيقة الكبرى أو الكبيرة على الحدود الشّرقيّة للأردن، وصورته بوصفه رجلاً قويّاً جدّاً في عمق سياسات المنطقة، وليس الأردن وحسب، وأنّه حاضرٌ وفاعلٌ سواء كان في الصّورة الظّاهرة أم خارجها.
وساهم في نفي الارتباط، وعدم تقبّله، أنّ مَن يوصفون بتأييدهم لدائرة الأمير حمزة، يبدون على النّقيض من دائرة عوض الله وحلفائه.
ولكنّ بيان “الحكومة”، أو “الدّولة” بعد الأحداث بيوم، أكّد هذا الرّبط بعبارات صريحة لا تقبل التّأويل، وهذا يُدخلنا في الدّائرة التّالية:
– دائرة الدّولة، وهنا لا نتحدّث عن “الحكومة”، و”أيمن الصّفديّ” الّذي قرأ “البيان”، بل نتحدّث عن “الملك”، و”الجيش”، و”المخابرات”، و”الأمن”، وما يُسمّى “مقرّبي الدّولة العميقة”، كـ”رئيس مجلس الأعيان”، الحاضرين تصريحاً ،وليس تلميحاً في المشهد، ولا أظنّ أردنيّاً يظنّ أنّ بيان “الصّفدي” بيان “حكومة”، فكلّ ما كُلّفت به الحكومة هو اختيار مَن يقرأ البيان، وكان الصّفدي بصفتين مزدوجتين مناسباً لسياق “السّرديّة” الّتي يُراد “صنعها”، أو “تصنيعها”، أو هي كذلك، والله أعلم!، فهو نائبٌ لرئيس الوزراء، ووزير الخارجيّة!
بعد البيان، بل قبله، انفلتت على المحطّات الفضائيّة “قطعان” من “المسؤولين السّابقين”؛ أي “كراكيب المستودع”! تنهش “الأمير”،وتتجرّأ في الكلام عليه بما لا يُمكن إلا بالدّفع من جهة أعلى، والضّوء الأخضر منها.
أحدثت تدخّلات “الدّولة” استقطاباً، ساهم كثيراً في فرض سرديّة “الخلاف العائليّ” على أيّ سرديّة أخرى، وساهم في حصر “الدّولة” في “العائلة”!
وبعد “فيديوهات الأمير”، وقبل البيان وبعده، جاءت بيانات التّأييد السّريعة من دول عربيّة وغير عربيّة متطابقة، وكأنّها نسخة واحدة، تنصّ على تأييد الملك وإجراءاته، والتّأكيد على أمن الأردن واستقراره، ممّا ساهم كثيراً في تشكيل حالة خوف وفزع عند الأردنيّين ليملؤوا الفراغ بين “حقيقة الأحداث”، و”ما يعرفونه عنها” من جهة، وهذا التّأييد الكبير الموحي بخطرٍ عظيم يقترب من “الانقلاب”، وتهديد الأمن والاستقرار!
وقبل أن تكتمل أو تستكمل هذه السّرديّة حكاياتها عبر صراع الخوف والطّمأنينة، جاءت الأخبار بـ”المصالحة العائليّة” بين “الملك” و”الأمير”، بتدخّل “الأمير حسن”، المأمور بالتّدخّل من الملك نفسه، لينتهي الأمر إلى إقرار الأمير بالأمر للملك، وتوقيعه على بيان الولاء المطلق؛ لتُترك الدّائرة الكبرى، وهي الكبرى واقعاً، ولكنّها الصّغرى، بل غير المرئيّة، وغير المعتبرة على الحقيقة، وهي “دائرة الشّعب الأردنيّ” في متاهة الأحداث! فيختار كلّ منهم ما يُريد من هذه السّرديّات المفكّكة، المليئة بالتّناقضات والفراغات!
– دائرة “الأردنيّين”: دائرة لا تحضر إلا مجازاً، ولا تنطق إلا بمن ينطق عنها، لا يراد لهم إلا أن يلعبوا أحد دورين في مسرحيّة “دائرة الطّباشير”، أو حكاية “سليمان” التّوراتيّة، فهم إمّا “الطّفل” الّذي يتنازع عليه المتنافسون، وليس فيهم الأمّ الّتي تحرص على الطّفل أكثر من حرصها على تملّكه، بل جميع المتنافسين لا يبالون بموته أو تملّكه! والدّور الثّاني هو دور الجمهور، يُصفّق لهذا، أو لذاك، لا مشكلة، ولكنّه لا يُصفّق إلا لـ”أبطال المسرحيّة”، ولا يرى وطنه ونفسه خارج الدّوائر الصّغرى الّتي يُراد رسمها!
هل نجحت مقاصدهم؟ جوابه عندنا نحن الشّعب، ولا أخفي أنّ نسبة كبيرة منّا قبلوا هذه الدّوائر الصّغرى، وقبلوا بأدوار “الطّفل الممزّق”، أو “الجمهور”، ولكن أرى وأظنّ أنّ فئة أخرى لا ترى ذلك، ولا تتقبّله، وهؤلاء يختلفون بعد ذلك في الانتباه للدّائرة المسؤولة عن كلّ ما جرى، وتبعات ما جرى، ولا أستغرب إن شهدنا في الأيّام القادمة، قد تكون قريبة أو بعيدة حركة “إخراج من مناصب عليا” في مؤسّسات الدّولة، ولا أعني “الحكومة”؛ فهي أقلّ من أن تكون جزءاً في شيء! تدفع كثيرين لحصر الدّائرة في هؤلاء المسؤولين!
ما جرى – أيّاً كانت مقاصده وحقيقته- خطير، ليس لطبيعة أحداثه، فهي أقرب لـ”حدّوتة سينمائيّة من الدّرجة العاشرة بعد الألف”، ولكن لآثارها؛ فإذا كانت الغاية إعادة ضبط دوائر الانتماء و”الولاء” في حصريّة “الأردن”، و”الدّولة”، و”العائلة الهاشميّة”، فإنّ هذه الغاية تتحقّق عند مَن هم يرونها من قبل؛ أي إنّ الجمهور المؤيّد لهذه الحصريّة، والمصدّق لها، والمصفّق لها، هم هم قبل الأحداث وبعدها، فماذا عن فئات لا ترى هذه الحصريّة؟ وترى الأردن أكبر من أن يُحصر في ما هو أصغر؟ فهل استطاعت هذه “السّرديّة” أن تستميل منهم إلى دوائرها؟ أم دفعتهم لمزيدٍ من التّمييز بين الدّوائر؟ والمزيد من القلق على دائرة الوطن الأردنيّ من أفعال الدّوائر الصّغرى؟!
*أستاذ جامعي أردني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)