ساري عُرابي*
عشر سنوات كاملات مضت على بدايات الثورة المصرية، وهي عشر على آخر سنة قضيتها كاملة في سجون السلطة.
كانت تأتيني هتافات الثورة من راديو ترانزيستور إلى زنزانة صغيرة، أنام فيها على لوح خشبي مقوّس، أقلبه مرة فأصير كمن ينام على ظهر صخرة يكاد يهوي عن أحد طرفيها، وأقلبه مرّة فأصير كمن ينام في قلب قبر، حتّى عَجِزَتْ المسكّنات يومها عن تسكين آلام ظهري، و”أغلي” فيها القهوة بخضّها في قنينة بلاستيكية معبّأة بماء من “دوش” الحمام، والعذاب رفيقي في صور بشر لا يجمعني بهم جامع، إلا أنّ لهم صورة البشر ولسانهم!
أضاءت تلك الهتافات،ظلمة هذا القبر، وانطمس فيّ وجعي الشخصي ليطغى عليه أمل عام، وما كان لهذا الأمل أن يغلب تلك الوحشة فأنساها، لولا أنّ بقية من حياة ظلّت تدبّ في ذلك القلب، وإذا بي أتحدّ مع الأمل، أفنى فيه عن العذابات التي تحيط بي، وكأنها لا وجود لها، فإذا ارتدّ إليّ الغضب، فليس لما أنا فيه، ولكن لمقالة في جريدة ،استفزّتني للردّ عليها لولا قيودي التي كنتُ أتذكرها حينئذ، أو لرأي سمعتُه في الراديو، وما من سبيل لمناقشته.
لما خرجتُ ،صببتُ ما تبقّى لي من حياة، في أحداث تلك الثورة، متابعة وتعليقًا، أصرف فيها أعصابي وطاقتي العقلية وما تبقّى من عاطفتي، حتى صار أكثر أصدقائي هنا على الفيسبوك من المصريين.. وغفلتُ عن عمري المنصبّ في تلك الحياة، حتى وجدت عقد الثلاثينيات قد انصرم على الحزن والكآبة، إلى حياة يعيشها المرء، لأنّه لا مناص له سوى التسليم لأمر الله، وقد كنتُ أرثي من قبل إهداري عقد العشرينيات.
عشر كاملات.. كيف مرّت على من نزلت عليه أهوال رابعة، أو على سجين في أحطّ الظروف، أو على طريد لم يزل يبحث عن سبيل للقمة، أو على والدة شهيد أو ابنة سجين، وخلف ذلك في العمق آمال ذوت فشاخت معها الحياة، وأفراح انتكست ،فدبّ الموت في قلوب لم تزل تنبض؟
العقبى عند الله، والأمل في وجه الله، ﴿وَلا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ﴾
*كاتب وباحث فلسطيني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)
زر الذهاب إلى الأعلى