د. نصر محمد عارف*
فى ذروة اشتعال فضيحة الرئيس الأمريكى،بيل كلينتون،مع مونيكا لوينسكي، فى 1998-1999، وفى لحظة تجلّت فيها عظمة الدستور الأمريكي، الذى يعدّ أفضل وثيقة سياسية وضعتها يد البشر، فقد استغرقت صياغته 115 يوماً؛ من 25 أيّار(مايو) 1789 إلى 17 أيلول(سبتمبر 1789)،حين اجتمع 55 من ممثلى 13 ولاية، فى قاعة الاستقلال بمدينة فيلادلفيا، كانت أمامهم مسدساتهم محشوّة بالرصاص، وأقسموا ألا يخرجوا أحياءًة إلا بدستور يؤسّس الاتحاد الأمريكي، هذه الوثيقة العظيمة،وضعت طريقة محكمة لمحاكمة الرئيس الأمريكي، حين يكون متّهما بجريمة، بحيث يكون القاضى،هو أقدم قضاة المحكمة الدستورية العليا، ويقوم مجلس النواب بدور الادّعاءأو النيابة، بينما يقوم مجلس الشيوخ بدور المحلّفين؛ هذه الحالة العبقرية لتوازن، وتداخل السلطات تبهر طلاب النظم السياسية المقارنة أمثالي.
فى تلك الفترة، كنت أعمل أستاذا مساعدا، مع العالم الكينى الأمريكي، الدكتور على مزروعى -رحمة الله عليه -، وهو من أشهر علماء السياسة والدراسات الأفريقية فى العالم،وكان صديقاً مقرّبا لجميع الرؤساء الأمريكيين،منذ أواخر الستينيات،حتى وفاته، لأنه كان رمزاً للأفارقة الأمريكيين،حينها سألته عن رأيه فى مصير محاكمة الرئيس كلينتون، بعدما اعترف بأنه ضلّل العدالة، وكذب تحت القسم فى موضوع علاقته بمونيكا لوينسكي،وهما جريمتان خطيرتان فى النظام القضائى الأمريكي، وكنت على يقين نظرى ،أن الرئيس كلينتون ،سوف يتم عزله من منصبه؛ مثلما حدث مع الرئيس نيكسون 1974 فى فضيحة ووترجيت،فكان رد أستاذنا الدكتور على مزروعى حاسماً وقاطعاً ونافياً لكل الخلاصات التى وصلت إليها من تحليل نظري، وقالها بصوته الرصين المميز: the establishment، (هذه الكلمة لم أجد ترجمة إلا المفهوم القرآني: الملأ)،لن يسمحوا بذلك، ولن يسمحوا بعزل رئيس أمريكى بتهمة أخلاقية، تمسّ نزاهته، وقيمه وأخلاقه، أما الرئيس نيسكون،فقد كانت التهمة سياسية، لأن العقل الأمريكى يضع الرؤساء فى موقع القدوة، يصيبون ويخطئون سياسياً، ولكن لن تكون هناك وثيقة تاريخية فى صورة حكم قضائى على أرفع مستوى تدين الرئيس أخلاقيا…وقد كان ما توقع الدكتور على مزروعي، وتم إغلاق القضية بصورة احترافية.
بحثت فى قواميس علم الاجتماع الأمريكى، عن مفهوم establishment، فوجدته يعنى جماعة أو نخبة تتحكّم فى المفاصل السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية لدولة من الدول، ولذلك وجدت من المناسب ترجمتها إلى كلمة ملأ فى العربية، والتى وردت فى القرآن الكريم فى مواضع كثيرة؛ كان أكثرها دلالة؛ خطاب بلقيس ملكة سبأ للنخبة المعاونة لها (قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم).
وهنا نجد أن الملأ الامريكى، هو من بيده القرار الأكبر عند مواجهة المخاطر الأكبر، أو تحقيق المصالح الأكبر،وما دون ذلك من اختصاص النظام الديمقراطي الذى نعرفه، يعمل ذلك النظام فى مؤسساته التشريعية ممثّلة فى الكونجرس،والتنفيذية ممثّلة فى البيت الأبيض فى جميع الأمور الأقل من الأكبر، أى التى لا تتعلّق بالوجود (التاريخ والمستقبل).
أمريكا التى لا نعرفها ،مصدر قوتها الحقيقى فى الحكم المحلى ،على مستوى البلدات الصغيرة والمدن وأحياء المدن، ثم مستوى المقاطعات والولايات، أما المستوى الاتحادى،فيأتى فى الدرجة الثالثة أو الرابعة، فجميع الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والبنية التحتية،بما فيها النظافة من اختصاص المستويات الدنيا من الحكم المحلى فى البلدات والمدن، يتم تمويلها من دخلها وحصتها من الضرائب، ويتم اتخاذ القرار فيها بالديمقراطية المباشرة؛ من خلال جلسات الاستماع المفتوحة التى يحضرها كل مهتم بالموضوع محلّ النقاش، وبناء على توجّهات الجمهور العام ،يصوّت مجلس الحكم المحلي.
أمريكا التى لا نعرفها،تقوم على نظام متقن وقوى جدا من الأوقاف فى جميع مجالات الحياة، وجميع الخدمات من التعليم ،حتى مقاعد الحدائق العامة، ويكفى أن نعرف أن وقف جامعة هارفارد،وصل إلى 40 مليار دولار قبل الأزمة المالية العالمية 2009، والآن وصل إلى 30 مليار دولار.
أمريكا التى لا نعرفه،لا تهتم كثيرا بمن يجلس فى البيت الأبيض، لأنها تعرف أنه مؤقّت، وفى كثير من الأوقات لا يقدّم ولايؤخر، ويمكن مراجعة عشرات الأفلام التى أنتجتها هوليوود عن البيت الأبيض،وما يحدث فيه من مآس يندى لها الجبين.
أمريكا التى لا نعرفه،فيها أكثر من 1100 بيت خبرة (Think-tank)،منها أكثر من 450 متخصّصا فى دراسة الشرق الأوسط والإسلام، ونحن العرب لا يوجد لدينا بيت خبرة واحد لدراسة وفهم أمريكا؛ التى ترتبط بها مصائرنا ومستقبل أوطاننا شئنا أم أبينا.
أمريكا التى لا نعرفه،لا ينشغل شعبها بنا، ولا يفكّر فينا ،لأن السياسة الخارجية والعالم الخارجى من اختصاص الملأ، وليس من اختصاص الشعب الأمريكي، لذلك تتحدّد السياسة الخارجية الأمريكية، تجاه أى دولة، طبقاً لتأثير هذه الدولة على الملأ، سواء بالتأثير المباشر، مثل،حالة السعودية فى فترة وجود الأمير بندر بن سلطان، سفيرا لها فى واشنطن، أو بالتأثير من خلال جماعات الضغط وجماعات المصالح مثل إسرائيل والهند.
أمريكا التى لا نعرفها، تميل مع دونالد ترامب وليس هيلارى كلينتون، حتى وإن انتخبت هيلاري …ترامب يخاطب العقل الأمريكى بما يريده، يعده بتحصيل أموال من جميع الدول التى تقدم أمريكا دعما أمنيا وعسكريا لها؛ من السعودية إلى الاتحاد الأوروبى إلى اليابان وكوريا الجنوبية، وهذا ما يريده الأمريكان الذين خسر خمسة ملايين منهم بيوتهم،و15 مليونا وظائفهم فى السنوات السبع الماضية.
أمريكا التى لا نعرفها ،هى التى مرّرت قانون (جاستا)،الذى يمثّل قرصنة دولية غير مسبوقة، تتيح للأمريكان سرقة الأمانات الموجودة فى بنوكهم،وعلى أرضهم من العر الذين وثقوا فى نظامهم، وذلك من خلال إلغاء مبدأ سيادة الدول ،الذى قام عليه النظام الدولي، وتحويل جميع الدول إلى مجرّد أشخاص بلا حصانة؛ يحكم فيهم القضاء الأمريكى كيفما يشاء؛ طبقا لقرار 15 مواطنا أمريكيا، هم المحلّفون، يستطيع هؤلاء الخمسة عشر، أن يتحكّموا فى أى دولة عربية، ويصادروا أرصدتها.
أمريكا التى لا نعرفه،تتجه إلى تبنّي مبدأ منرو – الذى صدر فى رسالة من الرئيس جميس منرو إلى الكونجرس فى 2 كانون أول (ديسمبر )1823، وتبنىّ فكرة عزلة نصف الكرة الأرضية الغربى – وتدخل فى حالة عزلة جديدة ،تعيد بها ترتيب أوضاعها، بعد أن تدهور اقتصادها بصورة لا ترضى الملأ.
أمريكا التى لا نعرفها؛ تعرفنا جيداً… فمتى تتوافر لدينا نية المعرفة، والهمة والقدرة على معرفتها؟!
*كاتب وباحث مصري
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)
زر الذهاب إلى الأعلى