بقلم: أسامة أبو ارشيد
شاركت، في الأيام القليلة الماضية، في زيارة عمل للبنان، ضمن وفد من بعض مسؤولي المؤسسات الإسلامية – الأميركية.الهدف الأساسي للزيارة، التعبير عن تضامننا مع البلد المنكوب، وللوقوف على آثار الانفجا الذي وقع في مرفأ بيروت، في الرابع من شهر أغسطس/ آب الجاري، ومحاولة فهم طبيعة الاحتياجات الإنسانية والاقتصادية التي ترتّبت عن ذلك.
جاءت زيارة وفدنا ،تحت لافتة “مجلس المنظمات الأميركية المسلمة”، وهي مظلةٌ تنضوي تحتها مئات المؤسسات (تعمل في حقول مختلفة)،والمراكز الإسلامية في الولايات المتحدة، ويقود هذه المنظمة مجلس أمناء من ثماني مؤسسات كبرى،تعمل على المستوى الوطني الأميركي، وتراوح مجالات تخصّصها بين الأعمال،السياسي والحقوقي والقانوني والشعبي… إلخ. والهدف من هذه المظلّة، التي شكلّناها، قبل بضع سنوات ،تقديم عنوان رسمي
لجزء كبير من المجتمع الأميركي المسلم، وتنسيق جهودنا، وحشد طاقاتنا مجتمعة، لتعزيز قوتنا وحضورنا السياسي في الولايات المتحدة على أرضية المواطنة. ولأن المسلمين الأميركيين، يقدّمون تبرّعات بعشرات الملايين من الدولارات سنوياً، لقضايا أمتهم المختلفة،سواء على شكل صدقات أو من زكاة أموالهم، فقد ارتأينا هذه المرّة، بصفتنا قادة للمجلس،أن نطّلع بأنفسنا على طبيعة الاحتياجاتعلى أرضالواقع، وعبر التواصل مع المسؤولين الرسميين اللبنانيين ومؤسسات المجتمع المدني هناك، وبالتالي، توجيه جهود المؤسسات الإغاثية الأميركية المسلمة إليها،وتوزيع المهمات بينها.
التقينا في الزيارة بمسؤولين لبنانيين،كرئيس الوزراء المستقيل،حسان دياب،ووزيرة الدفاع زينة عكر، ووزير التعليم طارق المجذوب،ورئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي. أيضاً، التقينا مفتي لبنان، الشيخ عبد اللطيف دريان، والبطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، فضلاً عن مسؤولين من طوائف أخرى، وقادة تيارات سياسية ومؤسسات مجتمع مدني. تحدّثنا كثيراً في الهمِّ اللبناني، وأزمات البلد الجميل الذي كان يوماً يوصف بأنه “سويسرا الشرق”،ليس لجمال جباله فحسب، التي يشبّهها بعضهم بجبال الألب، بل، أيضاً، لأنه كان، منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وحتى منتصف سبعينياته، المركز المالي والمصرفي للشرق الأوسط، وهي المنزلة التي تحظى بها سويسرا عالمياً،ولكن الحرب الأهلية، عام 1975، وضعت لبنان على طريق البؤس الذي هو عليه اليوم.
بدت المفارقة ما بين “سويسرا الشرق” في الأمس ،وما عليه لبنان اليوم قاسية جداً، ونحن نتفقّد آثار الدمار الهائل الذي أحدثه الانفجار. كنت وأنا أتنقّل بين المباني المنهارة،والمستشفيات المتضرّرة، والشقق السكنية التي لحقها خراب كبير، أقارن ذلك بالصورة الذهنية لديَّ عن بيروت، التي كوّنتها من بعض الأفلام المصرية والسورية القديمة، عندما كانت تقدّم مصيفاً عربياً جميلاً. ليس هذا فحسب، لطالما تماهت بيروت مع بعض الذوق الفني الراقي، والفضاء الفكري المنفتح، والحرية العزيزة في العالم العربي..لم تكن الحرب الأهلية فقط ،هي التي أسّست للبنان اليوم،ولا حتى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وأجزاء واسعة أخرى من البلاد، عام 1982، بل ولا حتى نظام المحاصصة الطائفية البغيض على حساب الكفاءة، دع عنك المواطنة. أبعد من ذلك كله، هناك عامل الفساد،الذي هو بدوره امتداد، إلى حد كبير، للمحاصصة الطائفية.
الفساد ،هذا متهم أساسي في الانفجار الكارثي ،الذي أودى بحياة العشرات، وَجَرْحِ الآلاف، وتشريد مئات الآلاف في بيروت.لن أخوض في الفرضيات المطروحة لبنانياً وعالمياً، بشأن حقيقة الانفجار، كيف وقع، وهوية الفاعل الأجنبي ،والمسؤول اللبناني المُفْتَرَضَيْنِ.ما نعلمه يقيناً أن 2750 طناً من نترات الأمونيوم شديدة الانفجار ،كانت مخزّنة بطريقة فيها إهمال شديد منذ عام 2014 في العنبر الـ12 بالمرفأ. كان مسؤولون لبنانيون كثيرون من ذوي الصلة ،يعلمون بذلك منذ سنوات، إذ كشفت التحقيقات أنهم حُذِّروا مراراً وتكراراً من خطورة الأمر،ولكنهم لم يفعلوا شيئاً.النتيجة، كما نعلم الآن، كارثية بكل المقاييس.
قُدِّر لي أن أجول سريعاً، مع الوفد، في المرفأ بإذن عسكري خاص، وضمن قيود مشدّدة، وقد مررت من جانب العنبر الـ12. كان المشهد فظيعاً، على الرغم من مرور قرابة ثلاثة أسابيع على الانفجار حينها، وما حصل من عملياتٍ لإزالة الأنقاض بمساعدة دولية. رأيت حاوياتٍ معدنيةً صلبة وقد عجنت من قوة الانفجار .كان الحديد ملتوياً ،وكأنه مصنوعٌ من مادةٍ لينة. وهناك باخرة كبيرة غارقة.ويقال إن أعداد الضحايا أكبر بكثير مما أُعلن، ذلك أن كثيرين منهم من أصول سورية وفيليبينية، يعملون بشكل غير شرعي في المرفأ، فلا توجد سجّلات لهم.
في غالب اجتماعاتنا مع المسؤولين اللبنانيين، وممثّلي بعض التيارات والطوائف ومؤسسات المجتمع المدني، كان ثمَّة إجماع على أن الفساد هو أُسُّ المشكلة ومدارها.
ولكن كيف تقتلع فساداً تحميه المحاصصة الطائفية والسياسية؟ أنت حرٌّ هناك في أن تقول ما تريد، وأن تنفث غضبك، بل وأن تشتم كذلك.في لبنان سقف حرية تعبير مرتفع مقارنة بالدول العربية، ولكنه محظور عليها أن تصل إلى حدَّ المسِّ ببنى وقواعد توزيع “الغنائم” و”الأنفال” بين القوى السياسية الطائفية المختلفة. للأسف، هكذا يُدار البلد، فيما يعيش المواطن اللبناني، من كل الطوائف والتيارات، مسحوقاً.
خلال زيارتي شققاً متضرّرة، على بعد كيلومترات من موقع الانفجار، جرّاء العصف الشديد، كنت أرى الأسى في عيون أناسٍ كانوا إلى ما قبل أسابيع قليلة، يعيشون مستورين في بيوتهم، ولكنهم اليوم أصبحوا عنواناً لنظرات الشفقة والعطف،وكأنه لم تكفهم معاناتهم منذ أشهر طويلة من أزمة اقتصادية قاسية، ومن تداعيات فيروس كورونا، ومن استقطاب سياسي حاد. الآن، أفهم بشكل أفضل ،الشعار الذي ما فتئ يرفعه المتظاهرون اللبنانيون “كلن يعني كلن”، الرامي إلى إزاحة كل المسؤولين عن مواقعهم، بغضّ النظر عن خلفياتهم الطائفية. أيُعقل مثلاً أن بلداً لديه من الأنهار الكثير، يذهب أكثر من 80% من مياهها العذبة إلى البحر هباءً، وهو يعاني العطش؟ هذا مثال واحد، وقس عليه الكثير .حتى مقاومة إسرائيل ،لا ينبغي أبداً أن تجيّر لتيار في طائفة ما مقابل الطوائف الأخرى، فلبنان كله يدفع ثمن ذلك، وكل اللبنانيين شركاء في الصمود.
كان الله في عون لبنان واللبنانيين على مصيبتهم في بعض زعماء طوائفهم، ومسؤوليهم، وتياراتهم السياسية.
المصدر: العربي الجديد
زر الذهاب إلى الأعلى