بقلم : عصام تليمة*
على الرغم من مضي أكثر من خمسين عاماً على استشهاده، ما زال الجدل ساخناً وصاخباً كلّما دار النقاش عن سيّد قطب رحمه الله وأفكاره وتحوّلاته وتأثيره في الفكر الإسلامي الحديث. ومع امتداد الجدل لكثير من كتبه ومواقفه، إلا أن تفسيره “في ظلال القرآن” ، يُمثّل دوماً صُلب مادة الحوار، لكونه العمود الفقري لإنتاجه ،والنص الأكثر ضخامة وكثافة فيما كتبه سيّد قطب، إضافة إلى كونه تماساً مباشراً مع النص القرآني وتفسيراً لمعانيه ومقاصده، ولأن كل الجدل حول أفكار سيّد عن الجاهلية والحاكمية والتكفير والعُزلة الشعورية والنواة الصلبة للتغيير وسوى ذلك، تضمّنها تفسيره للقرآن أكثر من أي كتاب آخر له.
في عام ١٩٥١ ، استجاب سيّد قطب لطلب مجلة “المسلمون” التي كان يرأس تحريرها سعيد رمضان، في كتابة تفسير لبعض سور القرآن، وبدأ بتفسير سورة الفاتحة، ثم تبعها بتفسير آيات مُتفرّقة من سورة البقرة. ثم توقّف عن النشر في المجلة، وقرّر أن يشرع في كتابة تفسيرٍ كاملٍ للقرآن، على أن يُنجز تفسير كل جزء منه في شهرين، ويرسله للنشر مطبوعاً في مطبعة (عيسى البابي الحلبي).
قبل الاعتقال الطويل لسيد قطب عقب حادثة المنشية في تشرين الأول/أكتوبر ١٩٥٤ ،كان قد أنجز ونشر تفسيره لثمانية عشر جزءاً من القرآن.
تم تعذيب سيّد في بداية اعتقاله، ثم سُمح له باستكمال كتابة التفسير عقب الشكوى القضائية التي رفعها الناشر على مصلحة السجون مُطالباً باستكمال العقد بينه وبين سيد قطب، وبذلك عاد المؤلّف إلى الكتابة والتفسير والنشر. وقد أتم تفسيره للجزء الأخير من الأجزاء الاثني عشر المتبقية ونشره في عام ١٩٥٩. نُشرت جميعها في كُرّاسات مُنفصلة عقب تسليم كل جزء منها إلى المطبعة، فلم يصدر تفسير الظلال في حياة سيد في كتابٍ واحد كما نُشر لاحقاً وتعارف عليه الناس.
بعد ذلك بعام، قرّر سيد قطب – وهو في سجنه – أن يقوم بتنقيح تفسيره المنشور وإعادة كتابته كتفسير حركي باعتباره منهج حياة، فبدأ بالعودة إلى الجزء الأول الذي كان يقع في تسعين صفحة، فأصدره مجدداً بنسخة كُتب عليها “طبعة مزيدة ومُنقحة” في ١٦٤ صفحة، أما الجزء الثاني الذي كان يقع في ٩٥ صفحة، فصدر في طبعته المزيدة والمُنقحة في ٢٣٣ صفحة. وقد أنجز سيّد – الذي أُفرج عنه عام ١٩٦٤ – حتى لحظة اعتقاله الأخير عام ١٩٦٥ إعادة كتابة وتنقيح أربعة عشر جزءاً من القرآن٫ من الفاتحة وحتى سورة الحِجر. وكل جزء يُعيد كتابته كان يتضخّم حجمه بمقدار الضِعف أو أكثر عما كان عليه سابقاً. وقد أُعدم سيد رحمه الله في ٢٩ آب/أغسطس من عام ١٩٦٦.
تفسير “في ظلال القرآن” في كل طبعاته المعروفة والمُتداولة – بداية بالطبعة الثانية لعيسى البابي الحلبي المتوافرة بالنت “وهي المزيدة والمُنقحة”، ثم بطبعات دور النشر اللبنانية، ثم طبعة الشروق المصرية، ثم مؤخراً طبعة الأصول العلمية – هو التفسير الذي أتم سيد تنقيح وإعادة كتابة أربعة عشر جزءاً منه، وبقيت الأجزاء المُتبقية بصيغة نشرها الأولى، أي بالمنهج الأول لسيّد قبل إعادة الكتابة. جميع الموضوعات والأفكار التي ثار حولها الجدل في فكر سيّد قطب كانت في الأربعة عشر جزءاً التي خضعت للتنقيح والإضافة.
اليوم، وبعد ثلاثة أعوام من الجمع التدقيق والمُطابقة، أصدرت دار “جسور للترجمة والنشر” تفسير “في ظلال القرآن” بصيغته الأولى التي اكتملت في عام ١٩٥٩، أي بالمنهج الأول لسيد قطب قبل إضافاته اللاحقة، وقبل التغيّر الذي شهده فكره ومنهجه وتصوراته. فهذا أول جمع للطبعة الأولى كاملة وإصدار لها، وهي تُهِم كل المعنيين بسيد قطب وبتفسيره البلاغي الإعجازي للقرآن وتأملاته الفكرية والشرعية، والمهتمين بتاريخ الأفكار وتطوّرها في سياقات وظروف سياسية واجتماعية ونفسية مُختلفة، خاصة تجاه شخصية لها كل هذا الحضور والتأثير الواسع داخل التيار الإسلامي وفي الفكر العربي الحديث، وأثارت كل هذا الجدل.
استغرق هذا العمل مني عاما كاملا في الجمع، والمقارنة، وقد كان أملي أن يصدر في ذكرى مرور خمسين عاما على استشهاده، لكن قدّر الله شيئا آخر، فظل ثلاث سنوات أخرى في المطبعة يراجع مراجعة أدق، وأشمل، وقد كتبت مقدّمة دراسية مطولة فيها معلومات في غاية الأهمية عن الظلال، وأدعو الباحثين للتأمل والمقارنة بين هذه الطبعة والطبعات الأخرى فهناك مساحة هائلة من البحث العلمي تضيف جديدا، وتصحّح الكثير مما شاع.
* باحث إسلامي مصري.
* (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).