بقلم : الهادي بريك*
١- زمّار الحيّ لا يطرب كما قالت العرب. نحتفي كثيرا – بل بمبالغات معروفة – بمن سلف. وستحتفي أجيال قابلة برجال فينا لا يلقون منّا ما يستحقّون. كذلك نحن عرفا وعادة، لا يكرم أولو المروءة حتّى يوارون التّراب.
٢- من نكباتنا أنّنا نكرم الرّجل أو نهينه بحسب توافقنا معه تفكيرا. أو تبايننا عنه. هو داء (الإيديولوجيا) حتّى داخل المنظومة الفكرية ذاتها. ومن تلك العاهات كذلك عدم التّمييز بين منازل الخطاب،إذ نريد من السّياسيّ ذات الخطاب من المفكّر أو الفيلسوف. فإن لم يكن فهو خائن باع قضيته أو جبان أوحلّت فيه التّهديدات.
٣- مِثْلَ علي لعريّض – من زوايا مهمّة – لم تلد الحركة الإسلامية في تونس إلاّ قليلا. ويعلم الدّارسون أنّ تحليل (كيمياء) أيّ شخصية عمل معقّد. وقلّ ما يؤمَّن منهاجه حتّى يظفر بما هو إلى الحقّ أدنى، وممّا أثاره ابن خلدون هنا مساهمة تضاريس الأرض في صناعة تلك الشخصية.
٤- وممّا يمكن أن يثار – لو أخضعت الشخصيات القيادية الأولى في تونس مقاومة طوال النّصف الثاني من القرن الميلاديّ الأخير إلى التّحليل الكيميائيّ – طبيعة التديّن في جيل علي لعريّض. وطبيعة القيم البدوية مفعمة بعضها ببقية دين. وكثير منها شهامة وكرامة ومروءة عربية.
٥- أزعم أنّ التركيبة الكيميائية النفسية لهذا المقاوم الجامع بين الصّلابة والهدوء (علي لعريّض) ، هي خلاصة صناعية بين عوامل مهمّة. منها : طفولته وفق تلك القيم البدوية (ومنها يتمه المبكّر) + نكهة التديّن في تلك الأيّام + تربيته في سنّ مبكّرة من الشباب وفق نمط تنظيميّ صارم. ولكنّه مثمل بقيم دينية أحسن إعادة صياغتها الشيخ راشد الغنّوشي. ومخّها التّحرّر والثّبات والمعاصرة. كما أزعم أنّ تلك الصّناعة الكيميائية للمهندس (علي لعريّض) توقّفت هناك. إذ بلغت ذروتها. وستكون هي المسؤولة على قيادة كسب هذا الرّجل وتغذية مواقفه.
٦- ولكن يظلّ هذا المقاوم الهادىء الذي لا يترجّل متميّزا بخصائص أخرى. بعضها يحيّر المهتمّين. وسئلت عنها مرّات بسبب قربي الكبير من هذا الرّجل ومنذ أيّام الشّباب الأولى. أيّام الصّحوة التي سبقت الحركة.
٧- من تلك الخصائص : غموض. كما يسمّيه بعضهم. منشأ ذلك الغموض عندهم هو قدرة هذا المقاوم الشّرس على الجمع بين مبدئية صارمة (ولكن في حدود المبادىء العقدية والتّعبدية والقيمية فحسب. وليس ميوعة بين مساحة المبادىء ومساحات المتغيّرات) وبين مرونة واسعة في استيعاب المواقف الجديدة والتّأقلم مع أوضاع مختلفة.
٨- أجبت ذات مرّة سائلين عن ذلك (الغموض) بقولي أنّ الرّجل – يعدّ في نظري – من القلائل ممّن نجح في طيّ (إيديولوجيته) في كمائن صدره طيّا عجيبا. فلا ترسم آثارها حتّى فوق عضلات وجهه. بله أن يُبرد بها لسان خطفة من فؤاده. الرّجل معصوم من آفة أودت بسياسيين كثيرين : (زلّة لسان). قلت لهم : مثل هذا الرّجل يمكن له أن يحكم الهند شديدة التنوّع الفكريّ. فلا يضيق به هنديّ واحد. تلك يا صاحبي في أيّامنا هذه (وليس أيّام الخلافة الرّاشدة أو ظهور الحكم الإسلاميّ) خلّة عظمى وقدرة كبرى.
٩- من خصائص شخصية هذا الرّجل كذلك : قدرة عجيبة على لزوم التّحفّظ والحيطة والحذر. هي خلّة لصيقة بالغموض الذي لا يفهم كثيرون سرّه. مردّ هذا – في تقديري- إلى تراث طويل وغنيّ كذلك من العملّ السرّيّ. إذ كان الرّجل مستأمنا على أمل ظلّت الأمّة في مسارها العريق تفجّره. وكلّما تفجّر افترسته الذّئاب. غالى هذا المقاوم الذي لا يعرف إستراحة المقاتل في الوفاء لقيمه مغالاة جعلت منه علاقة بأمّته ووطنه عنترة عبلة أو جميل بثينة.
١٠- عندما يقدر رجل على كظم غيظه وقتل شهوته ،ونحن نعلم جميعا أنّه ليس نبيا معصوما ويمكن له ترجمة ذلك الغيظ والنّجاح فيه ولو لأيّام معدودات ،فإنّه لا يليق بالمنصف إلاّ نسبة ذلك الفضل لأهله. ،ولكن شغبت علينا عواطف سياسية جيّاشة. نحن بها لسنا راضين على كثير ممّا أتاه المعصوم محمّد عليه السّلام. حتّى إنّ كثيرا منّا يتندّر طيشا بما وقع أيّام الحديبية وفتح مكة.
١١- وتظّل خلاصتي في ما سمّاه الإستئصاليون (عشرية سوداء) هي هي : رجال (النّهضة) قلّدوا أعلى أوسمة النّظافة السياسية والطّهر القيميّ. ولكن أخفقوا في حسن قيادة المرحلة. توازن شخصيتك هو الاعتدال في تسعير الرّجال، فلا يطغى هذا على ذاك.
١٢- علي لعريّض من القلائل الذين يقتلون أنفسهم قتلا في سبيل تونس وثورتها وحريتها. وهو قتل في سبيل الله. حتّى لو غاب هذا الخطاب عن خطابه هو. وهو من القلائل الذين يظلّون مرابطين على الثّغرات والأشدّ وفاء لقيم لا تحكى ولا حتّى تلقّن أو تتعلّم ولكن تعاش. كما قال هو نفسه في موضع آخر، رباط وفيّ، وفي الآن نفسه يئنّ هو نفسه ممّا يئن منه غيره ممّن آثر ترجّلا أو سبيلا آخر. و(كلّ ميسّر لما خلق له) كما قال سيّد الإمام عليه السلام.
ماذا يفعل الإنقلاب الرثّ بهذا المقاوم ؟
١- رجل عاده الموت مرّات ،فلقيه مؤمنا بعقيدة الإمام عليّ (في أيّ يوميّ أفرّ من الموت : في يوم كتب الله لي فيه عمرا جديدا أم في يوم قضى الله فيه أنّي أقضي)؟
٢- رجل مازادته العزلة الإنفرادية التي فرضها عليه الهالك بن عليّ لسنوات طويلات عجفاوات في سجنه إلاّ ثباتا، بل خرج من سجنه أحيى وعيا من كثيرين ممّن لم يعرف لا سجنا ولا نفيا.
٣- رجل بلغ اليوم سبعين عاما قمريا بالتّمام والكمال… رجل كلّما غازلته الثّعالب لتطيّشه عن تحفّظه وطول صمته وتوازن قوله أو استفزته شياطين الإنس ليبدي حقدا أو يثير خلافا داخليا في حزبه أوت إلى جحورها تجرّ أذيال الخيبة.
٤- رجل عركته المحن القاسية، فقلّده دهرها وسام الفداء (وهل ننسى شريط ” الوطد ” عام 1991 ناسبا لهذا الرّجل وهو في السجن عمل لوط!!!)ومرّغته منح السّلطة النّاعمة تسترق منه غرورا، فما ظفرت منه بغير تواضع زاده بين النّاس شرفا وعزّا.
ألا ما أتعس الإنقلاب ..ألا ما أبخس أذيال الإنقلاب ..
* داعية إسلامي تونسي.
* (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).