بقلم : محمد إلهامي
خبر وفاة الشيخ الإمام يوسف القرضاوي من تلك الأخبار التي لا يتمالك المرء نفسه أن يكتب فيها شيئا ! ويظلّ بعدها زمنا حتى يتسنىّ له أن يتزن ويختار وينظر إلى الأمر من بعيد، فيتهيّأ له أن يتحدّث !
وهذه الحيرة أراها بادية في كلام محبّيه وطلابه، فالكلام فيه مضطرب، والفكر فيه مرتبك، والعين تدور والعقل يجول، يبحث المرء عن الزمام!
فإن رأيت القرضاوي في الكتب،بهرك بسعة علمه وتفنّنه في الكتابة ،واهتمامه بأمر المسلمين وقضاياهم ونوازلهم، وإن جالسته بهرك بتواضعه وأدبه وطرافته وتوسعته لجلسائه وصبره عليهم.. ولقد رأيته وهو في الثامنة والثمانين من عمره يجلس في المؤتمر من أوله إلى آخره لأربعة أيام في دأب وصبر لا يطيقه الشباب !
ويكفي دليلا على قوة شخصيته وملئه لمكانه ،أن يحتار الناس في خلفائه من بعده !
كان القرضاوي رأس الأمر الذي ينتمي إليه، وباب الشأن الذي يقوم عليه، فهو في الفقه أكبر فقهاء العصر، وهو في الأزهر أرفع أعلامه، وهو في مصر أشهر مشايخها ورموزها، وهو في مدرسة الإخوان شيخها وفقيهها الأكبر !
ولستَ تجد عاقلا فيه إنصاف، من أي مدرسة إسلامية كانت، إلا وقد ترحّم عليه وعرف فضله،وتأسّف لموته!
لقد شاء الله أن بُثّت مؤخّرا حلقة لي ،تكلّمت فيها عن مذكْرات الشيخ المجدّد محمد رشيد رضا، وكان رشيد رضا ثمرة من ثمرات الأفغاني ومحمد عبده، فإن جريدتهم “العروة الوثقى” هي التي أيقظت فيه أن الإسلام شيء أكبر من العبادة والشعائر والأخلاق، وأنه نظام شامل لإصلاح الحياة والسياسة والاقتصاد والاجتماع !
هذا هو نفسه فضل القرضاويّ عليّ، فلقد أخرجتني كتبه من جدالات الأمور الصغيرة، التي لا تغادر تقصير الثوب أو فرضية النقاب أو إعفاء اللحية أو نحوها.. ففي كتبه رأيت أن الإسلام نظام حياة، وأنه منهاج أمة، وأنه الحل للبشرية !
وبعد أن كنت أرى الفتوى في كلام المشايخ تستغرق السطر أو السطرين، رأيتها تستغرق عشر صفحات أو أكثر في كتابه “فتاوى معاصرة”، فأنقذني ذلك من استسهال الفقه والاستهانة بعملية استخراج الحكم الشرعي من النص، وقد كنت على وشك ذلك أو وقعت فيه، فمنذ ذلك الوقت (وكان عمري 14 عاما) وحتى الآن، لا شيء أكثر مهابة عندي من الفقه.. ولئن كنتُ لا أستحضر الآن الفتاوى نفسها، فإن يقيني بأن الفقه عمل دقيق عظيم لا يزال حاضرا في نفسي حتى الآن!
كان الشيخ القرضاوي رجل عصره، مهموم بالنوازل، فليس يهتم أن يحرّر الدقائق التي تعجب العلماء والمتخصّصين، بل يقتحم الأمور التي تحتاج إلى الفتوى مما يفرضه الواقع.. وبهذا كان الشيخ أعظم تأثيرا ممن غرق في بحر الفقه العلمي التقليدي، فلم يعرفه سوى طلابه!
كتب عنه (جاكوب سوفجارد بترسون) كتابه “المفتي العالمي: ظاهرة يوسف القرضاوي”.. فالرجل كان يقصده للفتوى أهل الصين وأهل أمريكا الشمالية !
ومع بلوغه هذه المكانة التي يحلم بها أي إنسان، ويسكر بها أي مغرور، إلا أن الشيخ كان كثير الإلحاح على ضرورة الاجتهاد الجماعي، وأن مسائل الأمة ونوازلها صارت أوسع من قدرة الشخص على أن يفتي فيها ويستوعب أحوالها. وهذه منه سمة عالِم الأمة والحريص على شأنها، فلم يكن بالذي يرضى بما بلغه من السمعة والشهرة، لأن همه فوق حيّز نفسه !
ولهذا أيضا، كان مغرما بالمؤسّسيّة، ويعرف القارئ له من خشيته أن ينتهي العمل بانتهاء صاحبه ورائده، ولذلك خاض في إنشاء المؤسسات كي يبقى الأثر والخبر بعد ذهاب الرجال! فسعى في هذا حتى كان من أحسن ثمراته: موقع إسلام أون لاين، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ثم درّته الكبيرة: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين!
كان( إسلام أون لاين)أعظم موقع إسلامي في وقته، وصار المجلس الأوروبي مرجع المسلمين الشرعي في ديار الكفر، وكان الاتحاد العالمي أول تجمّع علمائي مستقل لا تسيطر عليه دولة!
وقد نختلف كثيرا في تقييم هذا الإنجاز المؤسسي، ومدى بلوغه أهدافه، ومدى سيره على النحو الذي أمّله الشيخ منه، وليس هذا مقصد الكلام هنا.. إنما مقصد الكلام الإشارة إلى هذا الهمّ الرابض في صدر الشيخ، وهذا المعنى الثائر في عقله، معنى المؤسسة، لكي لا ينفرد أحد بالرأي أولا، ولكي لا ينتهي العمل بوفاة صاحبه ثانيا.. فذلك الهمّ وذلك المعنى، هو من أدلة العظمة التي تميّز بها الشيخ الإمام.
لو كان الإمام في بلاد غير بلاد العرب في زماننا هذا، لما كان من شك في أنه كان سيبلغ أعظم مما بلغ بكثير بكثير بكثير.. فمثل هذا الرجل لو كان شيخا للأزهر، لكان الأزهر الآن في حال عظيم من القوة والسعة وتخريج العلماء واجتذاب الطاقات والطلاب !
لقد كان الشيخ طاقة هادرة وموجا متدفّقا، ،نشاطا هائلا منطلق في جهاتها الأربع، ولقد هيّأ الله له أن يسكن قطر، حيث توافر له فيها أمانٌ ما كان ليجد مثله في مكان آخر، فلقد كانت قطر من نعمة الله عليه، كما كان هو من نعمة الله على قطر، وهيّأ الله له من حُكَّامها من اتسعت صدورهم له، وبلغت عندهم منزلته وقبلت لديهم شفاعته! وما كان له أن يبلغ ما بلغ لولا ما هيّأه الله له منهم!
ولئن كنت لا أرتاب في أن القرضاوي رجل عظيم، فإني لا أرتاب كذلك في أن الأمة لا تخلو من مثله، لكن يد البطش والطغيان والاستبداد، وأفواه السجون والمشانق قد ابتلعت والتهمت سائر هؤلاء، فإن هي لم تلتهمهم فقد كبتتهم وأخرستهم وقيّدتهم، وإن هي لم تفعل ذلك عمدا،فقد فعلته بما نشرته من أجواء الخوف وبيئة الفساد وارتفاع الأسافل والأراذل!
وتلك الجواهر النادرة المكنونة التي لم تسمح لها الأوضاع أن تتألّق كما تألق القرضاوي، مهما جهلناهم فلم نعرفهم، ومهما كانوا مغمورين لم يأخذوا حقهم، فلا ريب أن الله يجزيهم أجرهم، ولا ريب أن التاريخ سينصفهم في قابل أيامه!
لكن يجب أيضا أن نقول، إن الشيخ الإمام القرضاوي قد استثمر الظرف المهيُأ له أفضل استثمار، فكم من المشايخ أمثاله ممن توافر لهم أمنٌ ورزق، فلم تحملهم همّتهم ولم تسعفهم مواهبهم أن يبلغوا شيئا مما بلغ الشيخ!
لئن كان الله قد أنعم على الشيخ ببلد آمن ورزق طيب، فلقد وفْى الشيخ -نحسبه- شكر نعمة الله عليه، فبذلها في مرضاته، واستهلكها في نصرة قضايا الأمة!
وهذا هو واجب كل امرئ فيما أنعم الله عليه به، وفيما استخلفه فيه.
نعم، أعرف أنها سطور مرتبكة محتارة، وأعرف أني سأتحسّر بعد قليل على شيء نسيته كان من حقه أن يذكر، ولكن يكفيني أن استطعت كتابة هذا في يوم كهذا! فهذا يوم غربت فيه الشمس، وانهد فيه ركن العلم، وخُتِم بالشيخ جيل الكبار!
فاللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيرا منها.
*مؤرخ وباحث مصري
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)