بقلم : د. حسن مدبولي
البعض يقدّسون الأشخاص ويستميتون فى الدفاع عنهم بالباطل وليّ الحقائق ، لدرجة تجعلك تترك أولوياتك لتردّ على ترّهاتهم ، وعلى محاولاتهم المستميتة لتزييف وعى الجماهير ( وفقا لخطاب الستينيات).وفى سياق ذلك تذكّرت العالم والعبقرى الرائع الدكتور جمال حمدان، بما يمثّله من قيمة وعظمة، وما تمثّله مأساته من صورة مؤلمة للواقع العلمى والأكاديمى فى فترة الستينيات التى يتغنىّ بها البعض ليل نهار، ويرفض أي نقد لها، وكأنْ رجالها كانوا ملائكة منزهّين ؟
فهذا الباحث الموسوعى الدكتور جمال حمدان، كان شخصا غير اعتيادي، نابغا قلّما يجود الزمان بأمثاله، امتلك عقلا إستراتيجيا له قدرة ثاقبّة على استشراف المستقبل ، فوضع عشرات الكتب والمراجع والدراسات التى عكست عبقريته وتفرّده، فمثلا فى فترة الستينات، وبينما كان الاتحاد السوفيتي في أوج مجده،أدرك جمال حمدان ببصيرته الثاقبة أن تفكّك الكتلة الشرقية واقع لا محالة، وأعلن ذلك في عام 1968م، وهو ما حدث بالفعل عام 1991.
وفى أحد كتبه، كان له قصب السبق في فضح أكذوبة أن اليهود الحاليين، هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقبة ما قبل الميلاد،حيث أثبت في كتابه “اليهود أنثروبولوجيا” الصادر في عام 1967 أن اليهود المعاصرين الذين يدّعون أنهم ينتمون إلى فلسطين،ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما هؤلاء ينتمون إلى إمبراطورية “الخزر التترية” التي قامت بين “بحر قزوين” و”البحر الأسود”، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي ،
وقد جسّد حبه وانتمائه لمصر فعليا فى كتابه الشهير بعنوان “شخصية مصر ” الصادر عام 1967، والذى ينبغى على كل مصرى أن يقرأه،كما أكّد كذلك إهتمامه بالعالم العربى فى أكثر من كتاب ودراسة ، وهو أيضا لم يغفل الإسلام ولا العالم الإسلامى، وله كتاب بعنوان العالم الإسلامى المعاصر تم نشره عام 1971م،
لكن الدكتور جمال حمدان رغم كل ذلك، اختار أن يعيش فى عزلة عن الناس بشقة متواضعة بالدور الأول بمنطقة الدقي، تتكوّن من غرفتين إحداهما للنوم والأخرى للاستقبال، تضمّ مائدة تتكدّس فوقها الكتب وعددا من الكراسى المتهالكة !!
فما الذى صدم الإنسان جمال حمدان، وجعله ينزوى ويبتعد عن العالم الخارجى ؟
ببساطة شديدة، لأن الدكتور جمال حمدان وعقب إنهاء دراسته وحصوله على درجة الدكتوراة من إحدى جامعات إنجلترا عام 1953، رفض البقاء هناك بناء على عروض كثيرة قدّمت له، من بينها كان عرضا عاطفيا من إحدى الفتيات التى عرض عليها الزواج بشرط العيش بالقاهرة، فلما رفضت وألحّت عليه بالبقاء،فضّل العودة إلى وطنه( على عكس الكثيرين ممن لا يعودون إلا بعد انتهاء صلاحيتهم فى دول المهجر )
وانضم الدكتور جمال حمدان فور عودته لوطنه إلى هيئة التدريس بكلية الآداب، جامعة القاهرة ،مستبشرا بعصر جديد عصر ثورة يوليو ، فإذا به يفجع من حجم الفساد والمجاملات الصارخة فى ساحة العلم التى ظنّها مقدّسة كمثيلاتها فى الدول المتحضّرة ، ففوجئ مثلا بزميل له تخرّج بدرجة ( مقبول )،وارتضى أن يعمل رسامّا للخرائط فى قسم الجغرافيا بالجامعة، وكذلك مساعدًا للأساتذة فى أبحاثهم مقابل أجر زهيد، لكنه بعد سنوات قليلة، تحوّل بقدرة قادر ليصبح زميلا له فى هيئة التدريس، وحاصلا على درجة الدكتوراه بمجاملات فجّة ، رغم أن مستواه العلمى كان لا يؤهّله للتدريس ولا للقب مدرّس؟
ثم كانت الطعنة التى قتلته قبل اغتياله الفعلى ،وهى اكتشافه تغليب العوامل السياسية على التقاليد الجامعية،وعلى مستويات الكفاءة وعلى الخبرات والإسهامات العملية ،وعلى مبادئ تكافؤ الفرص داخل أروقة الجامعات، مما جعل الأساتذة يتركون الاجتهاد العلمى ، و يتنافسون و يسعون إلى المناصب والعلاقات السياسية، ويوطّدون صلاتهم بالجهات الأمنية وأصحاب القرار، ويتسابقون على الانضمام إلى التنظيمات (الاشتراكية)،وكان من بين هؤلاء زميل للدكتور جمال حمدان فى قسم الجغرافيا ، استطاع بصلاته وعلاقاته السياسية أن يحصل على ترقية علمية ،كانت من حق الدكتور جمال حمدان عن جدارة علمية وقانونية و وعن كفاءة وإنتاج بحثي فى عهد يرفع شعارات العلم و المساواة والعدل،
فمثّلت تلك الواقعة صدمة قاسية عليه ،جعلته يفقد البقية الباقيّة من الصبر والثقة فى القدرة على إصلاح ذلك الواقع المزري ، مما جعله يبادر بتقديم استقالته من جامعة القاهرة لكى يتفرّغ لأبحاثه ،وكتبه بعيدًا عن صراعات لا يجيد أدواتها، و ذلك فى عام 1963.
الغريب هنا ،أن من تولّى رئاسة قسم الجغرافيا بالجامعة بدلا من العبقرىّ جمال حمدان ، لم يوقفه أحد، أو حتى يقوم بالبحث عن أسباب غضب جمال حمدان وتقديمه لاستقالته، لكنهم وإمعانا فى الكيد للدكتور جمال حمدان على مايبدو ، قاموا بعدها بتولية هذا الشخص عدة مناصب سياسية ،كان من بينها تعيينه وزيرا ناصريا عام 1968 ، بمعنى أن القيادة السياسية كانت (عارفة) وكان هذا هو منهجها ، وهؤلاء هم رجالها الذين تدعمهم وتستوزرهم !
المخزيّ لنا جميعا ان ذلك الرجل العظيم والعلامة الرائع الدكتور جمال حمدان تم اغتياله فى شقته المتواضعة بقلب القاهرة، ظهر يوم السبت 17 نيسان (إبريل)1993، ولم يعرف سببا مقنعا لما حدث له حتى الآن ؟!
- كاتب مصري
- (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).
زر الذهاب إلى الأعلى