بقلم : د. عبادة العلي*
سأبدأ من الخبر ذاته هذه المرّة، وهو “بدء تشغيل مطار رامون الإسرائيلي أمام الفلسطينيين “
كثيرون لا يدركون أهمية هذا الخبر استراتيجيا وأمنيًا للأردن ،ويبتدؤون وينتهون عند التبعات الاقتصادية، وحتى الأخيرة لا تحظى بالتقدير الكافي.
الفرص الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة ظاهرة نسبيّا (قطاع النقل والعقارات والسياحة والتجارة والقطاع المالي والمصرفي…الخ )، لكن هذا ليس ما يدفع “رجال الدولة” في الأردن من الأصلين للاستنفار وانتفاخ الأوداج، فقد عوّدنا رجال الدولة، أن الفرص الاقتصادية الضائعة لا يعبأ بها إلا ما كان منها مباشرا ظاهرا.
الحقيقة ، أن الأردن بفقدانه هذا الورقة، يؤكّد تراجعه في إمساك زمام الأمور في الضفة الغربية تحديدا ومجمل الملف الفلسطيني، الذي هو أحد أهم روافع الأردن الرسمي في الدبلوماسية الدولية، وأهم ملفّات الأمن القومي الأردني.
فقدان المسافرين الفلسطينيين تدريجيا ،سيقود إلى كثير من الأمور استراتيجيا وأمنيا، لكن أهمها:-
١-تراجع القدرة الرمزية للنظام الأردني عند جموع الفلسطينيين.
بتعبير الفلسطينيين اليومي أو كثير منهم “بننتقد السلطة وحماس وكل الأنظمة العربية ما عدا النظام الأردني”، فدائما هناك ممر إجباري وشبه وحيد نحو العالم عبر الجهاز الأمني الأردني، وهذا يضبط كثيرا من النقاش العام الفلسطيني عند تناول موقف الأردن الرسمي، والأهم هو أداء المسؤولين الفلسطينيين .
المزاج العام الفلسطيني نحو الأردن الرسمي في القضية الفلسطينية أهميته للنظام السياسي بأهمية -أو ربما تزيد عن- أهمية المزاج الأردني تجاهه في ذات الملف، ذلك أن تمثيل الأردن للفلسطينيين والقضية عموما في المحافل الدولية متعلّق بشكل كبير جدا بالاعتبار الرمزي أكثر من الاعتبار الدستوري والقانوني، خذ مثلا “الوصاية الهاشمية على المقدسات” ، فرأي الفلسطينين في تقديرهم للوصاية أهم بكثير من رأي الأردنيين، ومن أخطر ما يقوّض هذه الوصاية للارتداد الشعب الفلسطيني عليها، ويسحب هذا على كثير من المجالات.
٢- النقطة الثانية، هناك كم هائل من “المعلومات” عن الداخل الفلسطيني ستخسرها الأجهزة الأردنية تدريجيا، هذه “المعلومات” التي كانت كنزا وطنيا لدى الأردن الرسمي، إن باستخدامها لحماية “الأمن الوطني” ،أو “مشاركة” ما تراه الأجهزة مناسبا منها مع “الحلفاء”. من يعرف الأردن الرسمي يعرف أهمية مثل هذا.
في الصورة الأكبر، هذه ليست الورقة الأولى التي يخسرها الأردن الرسمي في القضية الفلسطينية، ولعلّ التطبيع العربي الأخير، ما كان منه علنيا، وربما الأهم ما كان سريا أمنيًا ودفاعيا، انتزع من الأردن الرسمي مكانته التاريخية كجسر للخليج العربي للحديث مع “إسرائيل”.
كل هذا مع حكومات يمينية، أنهت تماما فكرة حل الدولتين “الذي لا يمكن أن تجده اليوم إلاّ عند الأردن الرسمي وأبو مازن”، ومجتمع “إسرائيل” كامل ينزاح نحو اليمين.
في هذه الظروف ، تغدو الخيارات اليوم محدودة للدرجة التي تدفع الأردن الرسمي للضغط على الإخوان المسلمين، لإيجاد وسطاء للتواصل مع الحركة الإسلامية في الداخل، لتخفيف حملات المقاطعة لعرب الداخل لتمكين القوائم العربية من تجاوز العتبة، كمحاولة أخيرة لعدم عودة نيتنياهو، مع محاولات يائسة في التواصل مع “بقايا” اليسار الإسرائيلي.
يضاف إلى كل ذلك ، المعضلة الأكبر مرحليا بالنسبة للأردن، وهو “اليوم التالي لوفاة عباس” وترتيبات بيت السلطة الفلسطينية بعد عباس (هذا الملف بالمناسبة كان أحد ملفين فقط على طاولة الملك في أحد أحاديث الملك مع رؤساء وزراء ووزراء خارجية بوجود مدير المخابرات ورئيس الديوان الملكي).
اليوم التالي بعد عباس ،لم تعد الأردن وإسرائيل وحدهما من يشاركان في صناعته مع الأمريكان، وإنما هناك دول عربية جديدة لديها أجندة مختلفة عن الأردن الرسمي، وحاولت تجاوز عباس في حياته وهو ما ترفضه الأردن وتغيب عن اجتماعات رسمية لغياب عباس أو من يمثّله.
يطول الحديث عن تراجع الأوراق الأردنية، سواء في فلسطين أو في سوريا، بعد انهيار اتفاقية خفض التصعيد أو تراجع الاهتمام الأمريكي والعالمي في ملف مكافحة الإرهاب مع صعود الأزمة الأوكرانية.
ماذا ستفعل عمّان بهذا الصدد؟!…لا أعلم،ولكني لا أرى أي شيء جديد أكثر من أن يخرج وزير سابق ونائب ليتحدّث بحنق عن السلطة الفلسطينية، وجيش إلكتروني يدين تطبيع شعب واقع تحت الاحتلال ويراه خيانة، مستلهما لغة مسؤولين متورّطين في التطبيع حتى أخمص أقدامهم، ويمارسون الوعظ السياسي على الفلسطينيين. (طبعا لست مع تطبيع الفلسطينين مع المحتل إلا ما كان ضرورة بلا بديل، ولكن من منطلق وطني أردني فلسطيني لا من منطق انتقائي حسب المصلحة).
تعرف عمان جيدا عن المطار منذ “نوايا” إنشائه، لكن لم يتحرّك الأردن الرسمي إلا من خلال إدانات باردة لوزراء الخارجية لم يعقبها أي تحرّك سياسي أو دبلوماسي، ولا حتى باستخدام البنود “القانونية” (اللغة التي تحبها عمان بلا طائل) سواء في اتفاقية وادي عربة أو اتفاقية شيكاغو للطيران المدني.
يصرّ الأردن الرسمي على العمل من خلال نفس الأدوات وينتظر نتائج مختلفة.
إن موقفي الأخلاقي متعارض مع كثير ممّا تقدّم ذكره مما يتم فعله رسميا،مثل مشاركة المعلومات ،أو أن يكون الأردن جسرا للأشقاء العرب نحو “إسرائيل”،لكنني أردت التدليل على أن القراءة السياسية الوازنة حتى من المنطلقات التي يؤمن به الأردن الرسمي، لن تقود إلا إلا مزيد من الخيبات التي ستأكل من رصيد الدولة.
ما أؤمن به أن كثيرا من أدوات الدبلوماسية الأردنية اليوم بالية، وتنتمي إلى حقبة التسعينات في ظل عالم تغيّر كثيرا ومجتمع إسرائيلي تغيّر كثيرا وبيئة إقليمية تغيّرت كثيرا.
وإذا لم يكن الأردن الرسمي أجرأ في خياراته وأكثر تنويعا فيها وينظر إلى الحالة الشعبية الأردنية والفلسطينية والفاعلين الجدد على الأرض وعلى رأسهم المقاومة الفلسطينية فإن هذا سيجعله خارج كل المعادلات وسيفتح الباب على تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن وهو ما يختلف معه الوطنيون الأردنيون والفلسطينيون.
أعتقد أن الأوان قد حان منذ فترة للتفكير خارج الطريقة المعهودة التي لا تجلب إلا المزيد من التراجع في مكانة الأردن في الإقليم والعالم، فضلا عن الانفصال المتزايد عن تطلّعات الناس.
* ناشط أردني.
* (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).