بقلم :د. عزام سلطان التميمي
يشاع أن قيادة حركة حماس اتّخذت قراراً بتطبيع علاقاتها مع نظام بشار الأسد في دمشق، وأن إجراء بهذا الشأن بات وشيكاً، وذلك ضمن إعادة تشكّل محور ما يسمى بالمقاومة (إيران وسوريا والفصائل الفلسطينية)، مقابل محور التطبيع الذي يجمع الكيان الصهيوني مع الأنظمة العربية المتصالحة معه أو التي توشك أن تتصالح.
رسمياً، مازال الأمر إشاعة، ولكن من الواضح أنه غدا مصدر بلبلة وقلق داخل الوسط الإسلامي، بما في ذلك ضمن القاعدة الشعبية للحركة، وبشكل خاص في أوساط فلسطينيي الخارج، وفلسطينيي سوريا بالذات.
فالنظام السوري في نظر أنصار الثورات العربية، نظام مستبد جائر وفاسد، تحالف مع أعداء الشعب، إيران وروسيا، للحفاظ على وجوده بأي ثمن، ولو أفضى ذلك إلى الفتك بالآلاف وتدمير حياة الملايين من السوريين.
لا ينسى هؤلاء أن قيادة حركة حماس ،بمجرد انطلاق ثورة الشعب السوري اتّخذت قراراً بالخروج من سوريا، اعتبر حينذاك نبيلاً وأخلاقياً، لأنها لم تكن على استعداد لتأييد النظام في بطشه بالأبرياء العزّل، ولم تكن تملك خياراً سوى الانحياز إلى الشعوب العربية التي خرجت تطالب بحريتها وكرامتها وإصلاح شؤونها. ورغم أن القرار كلّفها الكثير مادياً، إلا أن موقف الحركة ذاك كان منسجماً تماماً مع مبادئ الإسلام التي تشكّل مرجعاً أساسياً لها، كما كان تعبيراً صادقاً عن الوفاء للشعوب التي تعاطفت معها، ورأت فيها بارقة أمل بعد أن شهدت تنظيمات فلسطينية كثيرة قد تاهت في أنفاق المساومات والمفاوضات والحسابات السياسية الخاطئة، وعلى رأسها حركة فتح المهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية.
ما من شك في أن حركة حماس، وبعد انتكاس ثورات الربيع العربي، باتت اليوم محاصرة ومقاطعة من قبل العديد من الأنظمة العربية، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، ومحاربة من قبل كثير من القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا الغربية، إلا أنه لا يوجد لدى النظام السوري ما يعوّضها به عن ذلك، وهو المنبوذ شعبياً، والمرتهن لدى قوى إقليمية ودولية معادية للشعب السوري. فلماذا إذن تفرّط الحركة بسمعتها، وتدوس على القيم التي طالما أعلنت تمسكها بها ؟!
يقول العارفون بما يدور فيما وراء الكواليس والمطلعون على الجدل الدائر داخل الصف القيادي في الحركة إن هذا التوجّه يعود إلى قناعة فريق متنفّذ في رأس الهرم القيادي، بأن إيران باتت هي الحليف الاستراتيجي للمقاومة، وأنه لا مفرّ من دفع ما تطلبه من أثمان مقابل دعمها، وأن مصلحة الحركة في ظل توسّع المحور الصهيوني وتمدّده في أرجاء المنطقة العربية باتت في الحفاظ على هذا التحالف وفي تعزيزه.
هذه قراءة للواقع قد تكون قاصرة ومتعجّلة. ولربّما كانت تداعياتها على الحركة بالغة الخطورة.
يتوقّع أن تكون أول ضحية لمثل هذه الرؤية ، هي استقلالية الحركة التي طالما فاخرت القيادة السابقة بها، مميّزة نفسها، على سبيل المثال، عن قيادة حركة الجهاد الإسلامي التي كانت علاقاتها مع النظام الإيراني منذ البداية في عهد مؤسسها فتحي الشقاقي علاقة التابع والوكيل. وبذلك، يخشى المشفقون على حركة حماس أنه لم يعد ثمة فرق يميّز علاقتها بإيران عن علاقة الجهاد الإسلامي بها.
كنت قبل عامين من انطلاق ثورات الربيع العربي، قد شاركت بوصفي خبيراً في حركة حماس، صدر لي كتاب عن تاريخها وفكرها، في مؤتمر دولي خاص عن الشرق الأوسط يعقد في مدينة أوروبية، وكانت القضية الفلسطينية أحد محاوره الرئيسة، وكان يشارك معنا ممثّلون عن سلطة رام الله، يحتل أحدهم اليوم منصباً رفيعاً جداً فيها. تضمّنت مداخلته اتّهاما لحماس بأنها مجرد وكيل عن إيران، لا يصدر عنها إلا ما يرضي الإيرانيين، وزعم أن سبب الخلاف الأساسي بين فتح وحماس، وتعطّل المصالحة بينهما، هو ولاء الأخيرة لإيران. فرددت عليه رداً قاسياً مفنّدا كلامه ،ومؤكّدا أنه محض افتراء، وشرحت للحضور طبيعة العلاقة بين حماس وإيران حسبما توافر لدي من معطيات. فثارت ثائرته، واشترط على منظّمي المؤتمر السنوي عدم دعوتي بعد ذلك للمشاركة في أي لقاء وإلا غاب هو وفريقه احتجاجاً. كنت وقتها على يقين بأنه كان يكذب على المشاركين، ويعلم الله أني لم أكن في ذلك مجانباً للصواب.
أما اليوم، فما كنت لأدفع التهمة عن الحركة بنفس اليقين.
وأما الضحية الثانية، فستكون مصداقية الحركة لدى عموم الناس، في فلسطين وفي خارجها. فهي حركة إسلامية في أصلها وفي التزامها، والإسلام يتعارض تماماً مع الميكافيلية التي ترى أن الغاية تبرر الوسيلة ويحارب النفعية التي ترى المصلحة مقدمة على المبادئ والأخلاق، وللمرء أن يقرأ ما ورد في المادة التاسعة من وثيقة حماس السياسية التي صدرت في إبريل (نيسان) 2017:
” تؤمن حماس بأنَّ رسالة الإسلام جاءت بقيم الحق والعدل والحرية والكرامة، وتحريم الظلم بأشكاله كافة، وتجريم الظالم مهما كان دينه أو عرقه أو جنسه أو جنسيته؛ وأنَّ الإسلام ضدّ جميع أشكال التطرّف والتعصّب الديني والعرقي والطائفي، وهو الدّينُ الذي يربّي أتباعه على ردّ العدوان والانتصار للمظلومين، ويحثّهم على البذل والعطاء والتضحية دفاعاً عن كرامتهم وأرضهم وشعوبهم ومقدساتهم.”
ويقرأ في المادة السابعة عشر: ” ترفض حماس اضطهاد أيّ إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي أو ديني أو طائفي ….”
ثم يقرأ في المادة الثانية والثلاثين: ” تؤكّد حماس على ضرورة استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، وعدم ارتهانه لجهات خارجية ….”
وأما الضحية الثالثة، فقد تكون وحدة الحركة وتماسكها، فلطالما حافظت الحركة على تلك الوحدة وذلك التماسك، بفضل وضوح الرؤية، وثبات الموقف، على الرغم من ظروف بالغة القسوة ناجمة عن الاحتلال والحصار والشتات وضعف الإمكانيات. أما اليوم، فثمة جدل، وثمة قلق، وثمة إرهاصات لا تبشّر بخير. وقد يجازف المبالغون في الحماسة لإيران، الغالون في براغماتيتهم، داخل الحركة بشق صفها، وإنهاء وحدتها، والدفع بالمحبطين من توجّهها الجديد نحو البحث عن بديل.
وأما الضحية الرابعة، فهي الجماهير المسلمة في العالم العربي وحول العالم، التي ما فتئت تشكّل الحاضن الطبيعي والحنون للحركة منذ نشأتها. وعلى رأس هؤلاء علماء الأمة ومثقفوها، الذين كانوا يرون في حماس نموذجاً للحركة المناضلة المتمسكة بقيم الإسلام ومكارم الأخلاق، ومازالوا يرجون لها تجنّب الوقوع في الوهم والتيه في دهاليز السياسة.
*ناشط وباحث سياسي فلسطيني / أردني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).
زر الذهاب إلى الأعلى