بقلم:سري سمور*
حين قرأت رسالة الشيخ الأسير الجريح جمال عبد السلام أبو الهيجا إلى ابنته التي ستزفّ بعد بضعة أيام إلى عريسها، شعرت بسرعة مضي الأيام والسنين؛ ولكنها وإن كانت تمرّ علينا سريعة ،فهي تمرّ ثقيلة بطيئة على أولئك القابضين على الجمر القابعين في السجون(أو قلاع الأسر كما يسمونها)، ولا يعرفون سوى مقارعة السجّان وأبواب السجون وقضبانها وجدرانها؛ وأغلب مفردات حياتهم:قمع وعزل وبوسطة وغاز وإرجاع وجبات وإضراب عن الطعام وإهمال طبي ومحامي وزيارة من خلف الزجاج واستخدام سمّاعة تشبه سماعة الهاتف لمن يسمح له بزيارة ذويه من الدرجة الأولى، كي يكون الحديث بينه وبينهم مسجّلا ومراقبا من إدارات ومخابرات السجون.
أولئك لا يعرفون حيرة الاختيار التي في خارج السجون شبه اليومية(ماذا سنأكل اليوم) فوجبات طعامهم في الأسر معروفة تعاد وتتكرّر ، ولا يكابدون (سأم) التنزّه أو التمشّي أو التجوّل في مكان ما، فمكانهم واحد ،ونطاق حركتهم محدود جدا جدا، وهم لا يرون السماء إلا عبر شبك حديدي مربّع كئيب، وتجري الأيام ،ويشيب شعر الرأس، ويكبر الأولاد ويتزوّجون ويأتي الأحفاد، وهم يعيشون هذه التفصيلات البائسة.
أستاذة ساجدة؛ هكذا عليّ أن أناديك ،وقد كبرتِ ،واجتزتِ اللقب الأول والثاني في الجامعة؛ لم يعد ربّما مجال أن أقول لكِ(عمّو) كما اعتدت ، عندما كنت أزور بيتكم غالبا لتهنئة أشقائك بالفرج من السجون ،التي ما يكاد الواحد منهم يخرج منها، حتى يعود إليها ،عدا شقيقك حمزة الذي ما إن خرج من سجن (مجدو )الذي قضى فيه بضعة أشهر حتى صار مطاردا ثم شهيدا.
لعلْك لن تتذكّري من كثرة الذين كانوا ينادونك (عمو) ،حين كنت صغيرة وعندكم معزاة صغيرة(سخلة) بديعة المنظر، فحضرت مع ابنتي إلى بيتكم، وابنتي الآن كبرت ،وصارت في الجامعة، وأنت أكبر منها ببضع سنين، فطلبت منك العناية بها واللعب معها، وأن تلعب تحت إشرافك بهذا الحيوان الأليف ،فاستجبتِ بجدية تظهر بأنك أكبر من عمرك، وكيف لا وقد قدّر الله لك أن تكوني أختا كبيرة، وأما وأنت ما زلتِ طفلة صغيرة، فأخذتُ ابنتي إلى غرفتك كأنك معلّمة وهي تلميذة، طبعا فابنة القائد تتعلّم القيادة مبكرا.
أستاذة ساجدة :بعد بضعة أيام ستزفّين إلى زوجك، كبرت وصرتِ عروسا، يا إلهي كم هي حياة شعبنا عموما وحياة بيتكم ومن شاكلكم واختار طريق الرباط والجهاد وذات الشوكة صعبة غريبة عجيبة، فأنتم لا تعرفون العقد النفسيّة التي يتحدّثون عنها في بلاد أخرى لحالات لم تذق واحد في الألف مما ذقتم، ولكنها بركة أكناف البيت المقدس وكرامة الله لعباده المجاهدين وذريّتهم.
عشرون سنة ستمر بعد أسابيع على اعتقال والدك الفاضل الشيخ جمال، كنت ابنة ست سنوات حين اعتقل، وقبلها لم تنعمِ بما يفترض أن تنعم به طفلة في عمرك من حضور الأب؛ فأبوك اختار أن يكون جلّ وقته للجهاد في سبيل الله، ونذر نفسه وحياته لمقارعة المحتل، فإما أن يزول الاحتلال ،وإما أن يكون ما يكون.
آه يا أستاذة ساجدة، رأيت يد أبيك المبتورة بعد أن أصابتها رصاصة جندي صهيوني لئيم، حين كان يقارع اقتحامهم للمخيم في الأزقّة والشوارع، وعشتِ وأنتِ الطفلة البريئة قصف البيت وإحراقه، وانتزاع أمك صبيحة يوم عيد، وزجّها في السجن، والآن ترين أمك(الخالة أم العبد) وقد أنهكها المرض الذي استفحل في جسدها، فلن تستطع بصحتها المعتلة الوقوف في فرحك كما جرت العادة…وعرفت طرق السجون الموزّعة في أرجاء الوطن المحتل من الجنوب إلى الوسط إلى الشمال، حين كنتِ تزورين الأب والأشقاء.
لن يمسك والدك بيدك وهو يلفّك بالعباءة يوم عرسك ويسمعك كلمات التهنئة، أو يبدو عليه التأثّر كما يفعل الآباء عند زفاف كريماتهم، ولن يأتي بعد أسبوع لزيارتك مع العائلة مهنّئا وحاملا ما تيسّر من هدايا…ولكن بعون الله سيحمل أولادك (أحفاده )ويلاعبهم بيده التي بقيت،والتي لطالما قارعت مع أختها التي بترت هذا الاحتلال الظالم.
وستزفّين إلى عريسك وعماد وعاصم في الاعتقال، ولن يكونا كما يفترض من يشرفان على تفصيلات أية عروس لها أشقاء أكبر منها.
أستاذة ساجدة:كنتِ بمثابة (سفيرة) عائلتك ،حين كنتِ الوحيدة المسموح لها بزيارة الشيخ في أسره وقد كان في العزل بضع سنين من سنوات أسره التي شارفت على العشرين، فزاد هذا من شعورك بالمسؤولية ،وكبرتِ قبل الأوان، وقد كان في زيارتك له يمدّك بعزيمة وطاقة صقلت شخصيتك مع صغر سنك.
وأما جرح الروح بفقدان حمزة، فهو كبير في نفسك لا ريب، ولكن هو شفيع لكم إن شاء الله، وقد عرض فلم وثائقي استعرض سيرته وكل من رآه قدّر بأن (ساجدة) هي أكثر أسرتها ألما وحزنا ولوعة، وكيف لا، وحمزة أقربهم لها سنا،وربطتها بشقيقها الشهيد بإذن الله علاقة أخويّة مميّزة عزّزها غياب الأب وأحيانا الأم، وكثرة غياب الأشقاء الآخرين في السجون ،فكانت ساجدة تقوم -وهي طفلة-بدور الأم وحمزة بدور الأب.
* كاتب ومدون فلسطيني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)