بقلم : د.وليد عبد الحي*
تشكّل القوة بمعناها المطلق ،ذلك المتغيّر الذي يتحكّم في حالة الجسم أو اتجاهه أو موضعه أو حركته، اما في العلاقات الدولية فتعني قدرة الدولة على إجبار وحدات المجتمع الدولي الأخرى على مراعاة مصالحها،ويشترط القانون الدولي “لشرعية القوة” ان تكون نسبية(اي متناسبة في استخدامها مع الغرض المراد تحقيقه من ناحية ، وان تكون الضرورة هي الدافع لاستخدامها من ناحية أخرى “.
فإذا انتقلنا للسلوك الإسرائيلي منذ إنشائها على الأراضي الفلسطينية ، فإن الهدف المركزي أو المصلحة العليا لها هو” السيطرة على الارض الفلسطينية وتفريغ الارض من سكانها الأصليين بأكبر قدر ممكن”.
ولتحقيق هذين الهدفين ،تسلّحت اسرائيل بالأسلحة النووية والتحالف مع القوى الدولية القطبية، وتطوّرت تكنولوجيا وعلميا بشكل يتفوّق على اي دولة في الاقليم، وأجبرت الأنظمة السياسية العربية على الاعتراف التدريجي “بشرعية وجودها والتطبيع معها”.
وتمكّنت هذه القوة بعد كرٍ وفرٍ من السيطرة على 98.7% من اراضي فلسطين التاريخية، لكن مشكلتها الاستراتيجية المتبقيّة هي السكان الفلسطينيين…ويبدو أن المشكلة التي لا تعرف لها ” إسرائيل” حلا –رغم كل قوتها وخوار خصومها- هي كيف تجد حلا للكتلة السكانيّة الفلسطينية، بخاصة أن هذه الكتلة تزداد بشكل يعمّق المشكلة الإسرائيلية المستعصيّة، وهو ما يتْضح تماما بلغة الارقام على النحو التالي:
يبلغ عدد سكان ” إسرائيل” الكلي( عربا ويهودا) حتى مطلع 2022 ما مجموعه 9.5 مليون نسمة، بينهم حوالي 7 مليون يهودي، ومعدل زيادة اليهود سنويا هو 1.9%، ومن المتوقع أن يكون عدد سكانها الكلي طبقا لإيقاع الزيادة حوالي 13.2 مليون عام 2040، مع ملاحظة أن مصادر الهجرة إليها من يهود العالم بدأ ينضب رغم الزيادة في الشهور الأخيرة بسبب الحرب الاوكرانية، لكن المعدل العام للزيادة من المهاجرين تبقى ما بين 16-18 الف سنويا، وهو المعدّل خلال الفترة من 2000 الى 2020.
بالمقابل ، فإن عدد الفلسطينيين عام 2022 في فلسطين التاريخية(1948+ الضفة الغربية+قطاع غزة ) هو 7.2 مليون نسمة( 1.9 مليون في 1948-و 3.2 مليون في الضفة الغربية، و 2.1 مليون في قطاع غزة)
،واستنادا لمعدّل زيادة سنوية تصل الى 2.3%، فإن عدد الفلسطينيين عام 2040 سيكون حوالي 13.8 مليون، وعليه سيكون عدد سكان فلسطين التاريخية هو 27 مليون نسمة(عرب ويهود)، أي بواقع ألف نسمة في الكيلومتر المربع بينما هي الآن 877 فردا/كم2، مع تفوق عدد الفلسطينيين على عدد اليهود بحوالي 600 الف نسمة، وهنا يبرز المأزق التاريخي ل” إسرائيل”،فما هي الحلول التي تتداولها الحكومة الاسرائيلية وقواها الحزبية ومراكز دراستها لهذا المازق ؟
1- تهجير قسري لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، عبر تضييق سبل الحياة وخلق اضطرابات بين الشرائح الفلسطينية (بين غزة والضفة)، قد تصل لحرب أهليّة تدفعهم للجوء نحو الدول المجاورة، لكن ذلك سيعيد فتح الملف الفلسطيني من جديد مع الدول العربية المجاورة، بخاصة نتيجة الضغوط المعيشية ،كما أن الخبرة التاريخية للفلسطينيين ستجعل غواية اللجوء أقل كثيرا من السابق، ناهيك عن ردود الفعل الدولية-أيّا كان مستواها-، إلى جانب عدم ضمان نجاح هذا السيناريو في ظل العدد الكبير للفلسطينيين في فلسطين التاريخية.
2- إبقاء الوضع الحالي : أي استمرار التوتّر العالي بين الفلسطينيين واليهود،واستمرار الاستنفار الإسرائيلي، والتهديد المستمر لاشتعال الحروب مجدّدا مع دول عربية او اسلامية ، وعدم ضمان حدوث تغيّرات في دول عربية تعيد الأمور إلى سابق عهود التوتّر العالي …الخ، وهو أمر لا يحل المشكلة الإسرائيلية.
3- مشاركة دول عربية في امتصاص تدريجي للفلسطينيين عبر فتح المجال لهم للعمل والاستقرار في الدول العربية بخاصة الاردن والخليج ولبنان، وتقديم مشروعات تنمويّة في بعض المناطق القريبة من فلسطين تتحوّل تدريجيا الى “وطن بديل” سواء بجوار غزة في سيناء أو في الجزر السعودية التي تنازلت مصر عنها مؤخرا( تيران وصنافير)،أو في مشروع “نيوم” …الخ، وقد تساهم دول غربيّة مثل كندا في امتصاص جزء من الفلسطينيين.
لكن السيناريو السابق يحتاج لفترة طويلة ، كما أن التزايد السكاني سيجعل من عدد الفلسطينيين عبئا على الدول “المستضيفة”، ناهيك أن عدم الاستقرار في الشرق الاوسط (لأسباب عديدة جدا) هو الأعلى عالميا، إلى جانب أن نسبة هامة من الفلسطينيين لن يقبل “فخ الغواية هذا” ، وسيبقى في أرضه حتى لو كان عاريا جائعا.
4- الإبادة الجنسية: وقد يتم ذلك بعمليات عسكرية واسعة، أو بالقتل الهادئ عبر خلق ظروف بيئية خانقة من خلال دفن النفايات النووية أو غيرها، أو عبر عقاقير معيّنة يجري ترويجها بطريقة أو أخرى أو التسميم في المياه أو…
لكن ذلك كله تعترضه مشكلة هي أن الفصل في الحياة اليومية والظروف الطبيعية بين العرب واليهود، أمر لم يعد ممكنا،مما يشكّل خطرا على الجميع ،بخاصة مع التزايد السكاني والارتفاع العالي للكثافة السكانية نظرا لضيق الحيّز المكاني.
5- القبول بدولة فلسطينية في الضفة وغزة، للتخلّص من عبء السكان الفلسطينيين: لكن هذا أمامه مشكلة المستوطنات، والقدس، ومصادر المياه المشتركة، إلى جانب خسران ” إسرائيل” للعمق الاستراتيجي للدولة ، ولضمان الفواصل الحدودية لها بخاصة نهر الاردن وما يحققة لها من جوانب اقتصادية وعسكرية، ناهيك أن الإسرائيليين يرون أن الضفة الغربية في حالة استقلالها، قد تكون بؤرة متجدّدة للمقاومة،والدليل نموذج غزة..وأيّا كان ضعف الاحتمال، فهي لا تقامر.
6- مشروع دولة واحدة تجمع الجميع: ويبدو هذا المشروع مغريا من منظور قيمي بخاصة في الدوائر الليبرالية، لكن التزايد السكاني سيجعل من ” إسرائيل” نموذجا مكرّرا لنظام الفصل العنصري مع ما يترتّب على احتمال الوصول لنفس الفشل في جنوب افريقيا نتيجة الفصل العنصري..أما القبول بالفلسطينيين على قدم المساواة، فيعني أن يكون رئيس الوزراء، وأغلبية أعضاء الكنيست من الفلسطينيين ،بحكم التفوق السكاني عدديا، وهو ما يفقد ” إسرائيل ” هويتها، بل وحتى وجودها السياسي.
إن أي حل مما سبق لا يتاتّى بالقوة العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية، والعقل الاسرائيلي يدرك جيدا “أن نماذج الاستعمار الاستيطاني ” فشلت في الحالات التي بقي فيها السكان الأصليون يشكّلون النسبة الأكبر أو حتى نسبة وازنة،فمثال الجزائر وجنوب افريقيا وزيمبابوي..الخ شاخصة تماما…
إن القوة الإسرائيلية عقيمة، فأهم مشكلة لديها أنها “لا تملك” حلا لمعضلتها السكانية، على الرغم من كل متغيّرات القوة الكامنة لديها أو المعلنة..وهذا هو المأزق التاريخي الذي على العرب أن يعملوا على ترسيخه بدعم الفلسطينيين في الأراضي المحتلة للتشبّت بالأرض ، وليس لدى ” إسرائيل”أي حل لهذا مهما امتلكت من قوة..فكل حلولها غير مقنعة، وتنطوي على صعوبات كبيرة بل ومخاطر كبيرة…وعمر ” إسرائيل” الآن هو نصف عمر الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر ،الذي انتهى رغم كل متغيّرات القوة الفرنسية…
لا أطلب من العرب الحرب، فهم أبعد ما يكون عن ذلك، ما أطلبه التفكير في كيفية تثبيت الفلسطينيين- سلميّا- في الداخل ،وليس عقد المؤتمرات للتفكير مع الإسرائيليين في إيجاد مخرج للمتغيّر السكّاني الفلسطيني الداخلي ،فليت العرب ينفقون على تثبيت الفلسطيني في منزله نصف ما أنفقوه على ربيع عربي غرائزي…ربما.
*باحث وأكاديمي أردني.
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).