بقلم : د. صالح محمّد النصيرات
قامت العلمانية على فكرة أساسية ، هي الفصل بين الدين والدولة ،وذلك يقتضي عدم التدخّل في الخيارات الدينية والفكرية للأفراد، وحشر المؤسسات الدينية داخل جدران المعابد ، فإذ أنها بشّرت الإنسان بأنها الظهير والسند لفكرة التعدديّة والقبول بالآخر، وعدم فرض التديّن بالقوة كرد فعل على ممارسات الكنسية ورجالها في الغرب الأوروبي. أي باختصار منح الإنسان الحقوق الطبيعية والدفاع عنها حتى الموت كما قال زُعم أنه قول لفولتير (قد أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أن أموت دفاعًا عن رأيك.»).
هذه الأفكار الأساسية للعلمانية، أصبحت اليوم محل جدل كبير بين المفكرين والمثقفين الذين يرون العلمانية سلطة جديدة تحلّ محل الكنيسة بفرض ما تؤمن به وما تروّج له من قيم، ومبادىء وممارسات تدخل في صميم الاختيارات الفردية، وحقوق الإنسان التي يصونها الدستور العلماني.
ولعلّ بعض المتحمّسين للعلمانية، يرون أن في الفقرة السابقة نوعا من المبالغة أوالحماس الزائد ضد موجة العلمنة، التي أصبحت محرّكا وأساسا للعولمة التي نعيشها اليوم. ولكن لدينا ثلاثة موضوعات ستحارب العلمانية العالم كله لفرضها دون تردد.
نظرية النشوء والارتقاء، الهولوكوست، والشذوذ الجنسي. هذه القضايا الثلاث، أصبحت مما يسمّونه في الأنثربولوجيا “التابوهات” المقدّسة في معابد العلمانية ومؤسساتها الضاربة ،وهي المؤسسات الدولية والإعلام والصحافة وحتى المحاكم التي يفترض أن يجد فيها المواطن العدل دون تمييز على أي أساس.
وعندما ينتقد أو يُشتم ذلك من مفكر أو أستاذ جامعي، أو حتى فنان وليس رجل دين ملتزم بعقيدته فقط، فإن المعابد العلمانية تتحرّك بلا استئذان، ويستباح عِرض ذلك المفكر أو الباحث، ويتم التحريض عليه حتى ولو أدّى ذلك إلى الاعتداء عليه ، أو طرده من الوظيفة أو منعه من الحقوق الأساسية التي هي المبادىء والأركان التي قامت عليها فكرة العلمنة.
ولم تكتف المعابد العلمانية بالهجوم على من ينتقد تلك الأفكار، بل أصبح الحياد أي عدم اتخاذ موقف إيجابي تجاه تلك القضايا الثلاث ،يعني الموافقة ضمنا -برأي العلمانية- على رفض تلك الأفكار والنظريات والممارسات، وهذا يجعلنا نتساءل:
هل التفتيش عمّا في ضمائر الناس وما يعتقدونه كما تفعل العلمانية اليوم يختلف كثيرا كما كانت تفعل الكنيسة في أوروبا؟
لقد وصلت العلمانية إلى مستوى احتكار الحقائق التي ترى في فلسفاتها أنها متعدّدة، وأن الحقيقة موجودة في الخارج يمكن لأي إنسان أن يجدها. فتعدد الحقيقة مبدأ آخر من مبادئ العلمانية. فكيف وصلت العلمانية اليوم إلى حضيض الاستبداد والفاشية التي لا تختلف كثيرا عن فاشيّات أوروبا؟ هل يمكن القول بأن الفكر الأوروبي و”حضارة” الرجل الأبيض اليوم هي نفسها التي عاشها لقرون محتلا وقاتلا وناهبا لموارد الدول، ومتمتّعا بها على حساب بقية خلق الله؟
لماذا تصرّ العلمانية على تفكير “مطلق” مقابل التفكير النسبي الذي روّجت له من خلال الدعوة إلى تعدد الأفكار والقبول بالآخر المخالف؟ هل وصلت العلمانية إلى نهايتها بعد قرون من الزيف والتخفي وراء غلالة رقيقة من الدعاوى والأفكار التي تريد أن تغيّر مفاهيم أصيلة في حياة الإنسان كالأسرة، وحق الدفاع عن النفس للشعوب المبتلاة باستعمارها الجديد وحقوق الإنسان في التديّن واختيار القيم الملائمة له؟
أستطيع أن أزعم أن الإسلام بقيمه الأصيلة ومبادئه الربانية، هو القلعة الأخيرة التي تقف في وجه هذا الاستبداد الذي نراه عيانا في شكل محاكم تفتيش جديدة باسم الحداثة وما بعدها وعولمة أفكارها والتبشير بها بل فرضها على البشرية من قبل مؤسساتها العملاقة ،كالبنك الدولي والأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية.
* أستاذ أكاديمي أردني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)
زر الذهاب إلى الأعلى