بقلم: د. وليد عبد الحيّ*
ليس لدي مشكلة في موافقة (رفائيل باتايي) في كتابه العقل العربي، على أن البلاغة والمبالغة والتوكيد والاعتقاد، بأن التغيير ليس تراكميا ،بل بصياغات موحية يعتقد مطلقها أن المزج بين الصوت العالي والجمال البلاغي تشكّل نقطة تحوّل في الظواهر التاريخية .
من الضروري ،الإدراك بان العنف اللفظي، هو نوع من التلويث السمعي،ويخفي بعضا من عدم التوازن بين الحساب العقلي والانفعال العاطفي الصادق، لكن خطورة ذلك تتجلّى في أن انفصال الانفعال الخطابي عن التجسيد العملي لمضمون النص الخطابي، سيحيل الخطيب إلى موضع سخرية ونقد وصولا لفقدان المصداقية من قبل المتلقّي.
اعود لموضوعي وهو ” التهديدات ” الفلسطينية ب : الزلزال،الخط الاحمر، إشعال الأرض تحت أقدام..، العواصف،الرد الفوري، درسا لن ينسوه،..الخ إذا نفّذت “ إسرائيل “مسيرة الأعلام واقتحمت الاقصى واعتدت على المرابطين…الخ من اشتراطات البيانات الفلسطينية لتنفيذ ما تعد به…
وأود هنا أن أؤكّد على نقطتين بالغتي الأهميّة:
أ- انا لا اطالب التنظيمات برد محدّد ، فمن المؤكّد أنها أكثر معرفة بظروفها الميدانية والجيوسياسية والجيواستراتيجية مني، وهم الأقدر على تحديد زمن الرد أو طبيعته أو أهدافه الآنية او البعيدة..الخ
ب- ما أطلبه من تنظيمات المقاومة، هو بالتحديد، الحرص الشديد- إلى حد التزمّت- على المصداقية والتناغم بين التهديد بالفعل الميداني، وبين القدرة على التنفيذ بمستوى ما يرد في الخطابات الجماهيرية والمعلنة، وأن الانفعال العاطفي للقائد في خطاباته، حتى لو كان صادقا أمر محفوف بالمخاطر ، والصوت العالي هو مؤشّر على الانفعال العاطفي، الذي قد يورّط صاحبه في التزامات، سيصبح عدم تطبيقها كارثة استراتيجية على المدى الطويل.
إن أحد اهم قواعد ترسيخ الترابط بين القيادة والجمهور ، وبين الصورة الذهنيّة للقائد وبين ما يرسمه القائد لذاته ،هي في مدى المصداقية والتناغم بين طرفي العلاقة، فالانفعال العاطفي والورم النرجسي لدى القائد ، كلّمازاد التصفيق الجماهيري، وفقدان القائد السيطرة على مكنونات لاوعيه، هو تورّط يشق جدار الثقة بين القائد والقاعدة، وتخبو جذوة الاستعداد لتنفيذ الاوامر .
لذا، أطالب قيادات المقاومة، بأن يتم دراسة أي خطاب قبل إلقائه، وتحديد ما يجب قوله وما لا يجب ، ولجم كل نزق عاطفي قد يورّط التنظيم بكامله في مطالب لا قبل له بتحقيقها، بل يجب مساءلة كل قائد عن تصريحات غير مدروسة يقولها هنا وهناك.
لقد استمعت لتهديدات في الأسابيع القليلة الماضية، ظننت بعدها أننا سنستعيد الاندلس ، وما أن نفّذت “إسرائيل” خطة ترويض العقل العربي، للقبول التدريجي باقتحام الاقصى، حتى انقلب المسؤول الفلسطيني لتقديم تبريرات عدم الرد ، وقد يكون عدم الرد قرارا عقلانيا، لكن الخطابات السابقة على الاقتحام للاقصى ،كانت توحي بشكل لا لبس فيه أن الرد “المزلزل و…الخ” قادم، بينما تبيّن أن الإسرائيليين قرأوا كتاب رفائيل باتاي جيدا.
للمقاومة كل الحق في صنع سياساتها وردودها ، ولا يجوز التدخّل في قرارها ، لكن عليها أن تتنبّه إلى أن المجتمع الفلسطيني بشكل خاص ،والعربي بشكل عام، والإسلامي بشكل أعم، قد ينفض من حولها إذا لم تنضبط في تحديد المسافة بين القول والفعل، وإلاّ ستفقد مصداقيتها وتورّط نفسها في التزامات لا قبل لها بها، ولا يجوز الخلط بين الشحن الثوري لتجذير الوعي السياسي ،وبين الانفعال العاطفي في مواقف غاية في الحساسية والدقة، وإلاّ ستهتز الثقة وتصدأ تدريجيا، ويجفّ بحر الجماهير من حول سمكة القائد.
- باحث وأكاديمي أردني.
- (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).
زر الذهاب إلى الأعلى