مقالات

محمود أبو غنيمة , الليث الحقيقي

بقلم : م. جمال راتب

لازلت كلّما ذكرت محمود أبوغنيمة رحمه الله، الذي غادرنا في سياق أشبه ما يكون بعملية فقد ناعمة, إلاُ وتذكّرت كيف أن أكبر همّه كان مصلحة الناس وأوجاعهم, وكيف كان لا يحدّثك إلاُ بما يمكن أن نتسلّح به لنتجاوز الواقع المهين!!
كان باستطاعته أن يمارس التنظير, والخطاب المنمّق، عبر أحد منصّات التواصل الاجتماعي, وخاصة أنه صاحب المنطق والخطاب الأخّاذ, وأن لدى بعض إخوته ومحبّيه من التقنيات الإخراجية البسيطة ما يعينه أن يتفوّق على قنوات فضائية,,
وكان يمتلك أدوات وعلاقات يستطيع بها أن يصنع رأياً عاماً, ليس في القطاع الشعبي فقط, بل والمهني أو النخبوي, أو ربّما بعض القطاع الرسمي, فلقد صاحبت أبا زياد في زيارة لأحد تلك القطاعات, فكان الاستقبال الذي ناله, والحفاوة التي لقيها هناك, قد يغبطه عليها مسؤولون في تلك الدائرة أو القطاع!!
لكنه كان يؤثّر أن يضع الكلمة في مكانها, والنصيحة في موقعها, ويتحرّك برصانة تراعي سمو الهدف الذي يرنو إليه, والبيئة السياسية, وإمكانات الطرف الذي يتكلّم معه, والقيود التي تحاصره.
لم يكن محمود جعجاعاً, كثير النقد والكلام, قليل الأفعال, يؤذي من يثق به, ويسفّه من يعلّق الآمال عليه, فيهيّجهم ثم يحبطهم, ثم يهيّجهم, ثم يحبطهم, لم يكن محمود كذلك أبداً, بل كان يعلم أن مشاعر الناس آخر ما يمكن أن يتم إمتطاؤه!!
محمود لم يكن مبعثر الأفكار, بل كان يتقن وضع الخطط, والأهم من ذلك أنه كان يؤمن أن وضع الأهداف والخطط لا تتم إلا بشراكة, ولا يمكن أن تنضج إلا من خلال التفكير الجمعي, وعدم الاستئثار بالصواب, وادُعاء الحكمة المطلقة, وأنه من يمتلك الحقيقة والمصلحة, وان غيره يستحقون الشتم بأقذع الألفاظ!!
محمود كان منطقياً في ما يطلب, وكان على استعداد أن يضحّي بنفسه, بشرط أن يكون الثمن كبيرا, والعائد مرتفعا, لا أن يهين نفسه كلّما أراد أن يجري مناورة, ولا أن يصغّر من مكانته كلّما أراد أن يكسب تعاطفاً غير محسوب النتائج, أو يقتحم مجازفة غير معلومة التبعات.
محمود لم يرم حجرا في بئر شرب منه, ولم يخون الخبز الذي أكله مع قوم, ولم يجعل انفعاله يطغى على مروءته, أو أن يتنكّر لشركاء الأمس, فيجعلهم والفاسدين سواء!!
محمود صنع قادة, وقام بتأهيل أبطال, وأشرف على إعداد جبهة من الفهماء والنجباء, ولم يتمرّس في جمع الأضداد, واللعب على الحبال ، لكي يبقى متسيّدا للمشهد, ومتصدّرا التاريخ والحاضر والمستقبل!!
رحم الله محمود أبو غنيمة, فقد كان مدرسة حتى في اختلاف الرأي, والخصام بمنتهى الشرف.

*ناشط نقابي أردني

(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق