بقلم: سامي براهم
جدل في مصر حول ” ضرب النّساء” بمناسبة تأويل لفصل قانونيّ … طرفاه الأزهر والتيّار الحداثي … وبشكل خاصّ ما أثاره ردّ الباحث المثير للجدل إسلام البحيري على خطاب شيخ الأزهر أحمد الطيّب … وللإعلام دوره في الإثارة وإذكاء الجدل …
اللّافت أنّ الجميع متّفقون على القانون المجرّم لضرب النّساء، وعلى تبرئة الإسلام من الحثّ على ضرب النّساء ،لكن كلّ من موقعه وحسب أهدافه …
أمّا شيخ الأزهر فقد استعاد السرديّة الفقهيّة التي تلطّف من مدلول الآية 34 من سورة النّساء، لتجعل منه حقّا غير مطلق للزّوج، فهو حالة استثنائيّة خاصّة بالنّشوز، وهو ضرب رمزيّ مباح، ودواء لعلاج حالات مستعصيّة في سياقات اجتماعيّة مخصوصة، وصوّرته أنّه ضرب مخفّف بعود السّواك،أو طرف الثّوب مع تجنّب الوجه، بغاية كسر كبر المرأة وترفّعها على زوجها، وهو معنى النّشوز برأيه … ولكنّه مع ذلك رأي أنّ الحاكم يمكنه منع هذا المباح خشية سوء استعماله …
وأمّا الباحث إسلام البحيري،فقد نحا في تأويله للآية باتّجاه تخصيصها بواقعة الخيانة الزّوجيّة ،حيث لا يتحكّم فيها الزّوج المكتشف لخيانة زوجته أعصابه وردود أفعاله، فيعمد للضّرب، وهو أمر غريزيّ طبيعيّ متأصّل في الفطرة البشريّة راعاه الإسلام …
جدل عقيم مشدود لنفس قواعد التّأويل الفقهي المرتهن إلى الألفاظ مقطوعة عن سياقاتها الاجتماعيّة ،التي عالجها الوحي ضمن منهجه في إصلاح الواقع الذّكوري، الذي كان سائدا حيث كان ضرب النّساء عادة شائعة في عدد من حواضر العرب وقراهم وقبائلهم …
هي مسألة أوسع من أحكام الفقه وقواعده وعلله، ومن جدل السّياسة ومناكفاتها وتسجيل النّقاط … بل هي أعلق بمباحث الأنطربولوجيا ،ومنهج تفاعل النّصوص مع قضايا الواقع وأسلوبها في التّأثير فيها لتغييرها … وللدّكتور محمّد الطّالبي رحمه الله في ذلك بحث جليل نشر في مجلّة 15/21، ثمّ أعيد نشره في كتابه “أمّة الوسط” بيّن فيه ضمن ما أطلق عليه “المقاربة السّهميّة” كيف عالج القرآن واقعة ضرب امرأة كشفت ظاهرة اجتماعيّة مستجدّة في المجتمع الجديد القائم على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار،
وصورة الحال كما وردت في أسباب نزول الآية في كتب التّفسير :
اختصم سعد الرّبيع مع زوجته حبيبة بنت زيد وكلاهما من الأنصار، وقد نشزت عنه فلطمها، فذهبت مع أبيها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أبوها: “أفرشته كريمتي فلطمها.”
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “لتقتصّ من زوجها”، فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “ارجعوا هذا جبريل”، وأنزل الله تعالى: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ”، فقال رسول الله: “أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا والذي أراد الله خير” ورُفع القصاص.
وقد استنتج الطّالبي من ذلك أنّ الرّسول حكم بمقتضى المساواة التي يتضمّنها معنى القصاص بينما راعى الوحي ظاهرة اجتماعيّة تتمثّل في الحفاظ على التّوازن الأسريّ في واقع مستجدّ ” زواج مختلط بين مكيين تجيز ثقافتهم ضرب النّساء ومدنيّات تستنكف ثقافتهم من ضرب النّساء ” حيث كان حكم الرّسول الأكرم للزّوجة المعنَّفَة بالاقتصاص من زوجها المُعَنِّف، مثار جلبة في هذا المجتمع الجديد.
وهو نفس ما ورد من معان جليلة دقيقة في تفسير الشّيخ الطّاهر بن عاشور رحمه الله حيث ذكر في معرض تفسيره للآية :
“واحتجّوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزّوج في ضرب زوجته النّاشز، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنّهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة.
وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار مَحْمَل الإباحة فيها أنّها قد روعي فيها عرف بعض الطّبقات من النّاس، أو بعض القبائل، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداءً، ولا تعدّه النّساء أيضاً اعتداء …
وقد ثبت في الصّحيح أنّ عمر بن الخطاب قال: (كنّا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدّبن بأدب نساء الأنصار).
فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون وُلاة الأمور، وكان سببه مجرّد العصيان والكراهِية دون الفاحشة، فلا جرم أنّه أذن فيه لقوم لا يعُدّون صدوره من الأزواج إضراراً ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلاّ بشيء من ذلك.”
ثمّ أضاف :
“وأمّا الضرب فهو خطير وتحديده عسير، ولكنّه أذن فيه في حالة ظهور الفساد؛ لأنّ المرأة اعتدَتْ حينئذ، ولكن يجب تعيين حدّ في ذلك، يبيّن في الفقه، لأنّه لو أطلق للأزواج أن يتولّوه، وهم حينئذ يشْفُون غضبهم، لكان ذلك مظنّة تجاوز الحدّ، إذ قلّ من يعاقب على قدر الذّنب، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة. بيد أنّ الجمهور قيّدوا ذلك بالسّلامة من الإضرار، وبصدوره ممّن لا يعدّ الضرب بينهم إهانة وإضراراً. فنقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعَها، ولا الوقوفَ عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أنّ من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع.” انتهى كلام الشّيخ بن عاشور
مفاد رأي الشّيخ بن عاشور أنّ لولاة الأمور ” الدّولة ” منع هذه العادة التي تشكّل اعتداء في حقّ النّساء وهو ما ذهب إليه شيخ الأزهر في نهاية تحليله.
*باحث ومحلّل سياسي تونسي.
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)