بقلم : أوّاب إبراهيم المصري
ثلاثة عسكريين يشحطون الموقوف شحطاً على الأرض، وهو مكبّل اليدين بكلبشات خلف ظهره، ورأسه “مطمّش” بالقميص، الذي يرتديه ،فانكشف ظهره وبطنه. على باب غرفة قاضي التحقيق العسكري فكّ أحد الحرّاس أصفاد الموقوف ،وأنزل القميص عن رأسه ،وأدخله لغرفة القاضي. دخلتُ مع الموقوف وكيلاً عنه، بادر القاضي الموقوف بالسؤال “شو يا فلان.. قال كان بدّك تفجّر قنبلة؟” أدار الموقوف ظهره جهة القاضي، وكشف عن قمصيه، وقال للقاضي: “شوف يا سيدنا.. شوف التعذيب يلّلي عملوه فييّ لحتى أخدوا مني الاعترافات اللّي قدّامك”، وكان ظهر الموقوف مليئاً بالكدمات الحمراء والزرقاء والخضراء. تجنّب القاضي النظر إلى ظهر الموقوف، وتظاهر بالانشغال بالأوراق التي أمامه، وسارع لإسكات الموقوف “سكووت.. إنت واحد كذّاب.. اعترافاتك واضحة ومثبّتة ومش بحاجة لتعذيب”. سألتُ القاضي: “هل ستعتمد في اتهامك على اعترافات الموقوف المكتوبة التي من الواضح أنها أُخذت منه تحت التعذيب؟ وهل ستتغاضى عن ماتعرّض له من تعذيب جسدي واضح، ولن تسأل عن المسؤولين عن تعذيبه؟”.. “أستاذ أنا بعرف شغلي منيح.. والتحقيق بالتعذيب مش ضمن صلاحياتي.. وهيدا اللي شايفو كذّاب كبير، أنا معوّد على شاكلتو منيح، وأصلاً هنّا إرهابيين ما بيعترفوا إلا بالتعذيب”.
هذه عيّنة بسيطة عن المخالفات، والظلم والاضطهاد ،الذي مارسته المحكمة العسكرية، ومازالت بحق مئات الشباب منذ أكثر من 15 سنة وحتى اليوم. معاملة خشنة، غلظة في التعاطي، مخالفة للقانون، البحث عن أتفه القرائن، لإنزال أشدّ العقوبات، غضّ النظر عن التعذيب والإكراه الذي يتعرّض له الموقوفون خلال التحقيق معهم، الإدانة على مجرد نوايا دون أي مخالفة للقانون، استنسابية في التعاطي مع الملفات..
رُفع الصوت عالياً مرات عديدة ،احتجاجاً على أداء المحكمة العسكرية وانحيازها الظالم، انتقدت منظمات حقوقية دولية في تقارير متكررة، سلوك المحكمة العسكرية ومخالفتها للقانون في الكثير من إجراءاتها،لكن أحداً لم يكن يلتفت لذلك، واستمرت المحكمة العسكرية سيفاً مسلّطا على رقاب مئات الشبان، زجّت بهم في السجون لسنوات لمجرّد الشبهة. فقط اليوم، انتبه البعض إلى استنسابية المحكمة العسكرية،حين أظهرت تساهلاً في التعاطي مع موقوفي أحداث الطيّونة، فأخلت سبيل عدد منهم. هذا التساهل لم يعجب هذا البعض،فبدأ برمي السهام على المحكمة وقضاتها، وتذكّر فجأة أنها محكمة استثنائية، فقط لأن أداءها مؤخّرا لم يعد يناسبه، رغم أن المحكمة العسكرية كانت طوال السنوات الماضية اليد القضائية الطولى لهذا البعض، تتشدّد مع خصومه، وتتساهل وتغضّ النظر عنه وعن حلفائه.
هذا الاستياء غير المسبوق، لم نسمع حساً له حين كانت شريحة واسعة من اللبنانيين تعاني طوال السنوات الماضية من الظلم والاضطهاد من المحكمة.وإذا كان التساهل يستحق استياء، فلماذا لم نسمع استياء ، حين أخلت المحكمة العسكرية نفسها سبيل أحد أكبر عملاء العدو الإسرائيلي المسؤول عن قتل عدد من الأسرى في سجن الخيام عامر الفاخوري، وتركته يغادر لبنان على متن طوّافة أميركية، بعدما قضى فترة توقيفه في أحد المستشفيات الفارهة.لماذا لم يكن هناك ما يستحق الاستياء من التساهل الذي انتهجته المحكمة في ملفات مئات العملاء الإسرائيليين، الذين اكتفت بتوقيفهم لأشهر رغم الجرائم التي ارتكبوها، بينما الاستياء اليوم من تساهل المحكمة العسكرية، فقط لأنها أخلت سبيل موقوفين على خلفية أحداث الطيّونة، علماً أن المسؤول عما حصل في الطيّونة، ليس فقط من أطلق الرصاص، بل أيضاً الذي عمل على التحريض والتجييش والتخويف.
إذا كان البعض شعر بالاستياء مؤخّرا من أداء المحكمة العسكرية وانحيازها، فإن شريحة واسعة من اللبنانيين تشعر بالاستياء من هذه المحكمة منذ سنوات، وتطالب بإلغائها وحصر صلاحياتها، لكن مشكلة هؤلاء أنه لاصوت مسموعاً لهم.
* كاتب لبناني
- (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)
زر الذهاب إلى الأعلى