بقلم: عصام تليمة
سؤال يطرح بقوة،خاصةبعد كل أزمة تتعرّض لها جماعة الإخوان المسلمين، وقد جعلت عنوان التساؤل: هل انتهى تنظيم الإخوان؟ ولم أجعله: هل انتهت جماعة الإخوان؟ لأن الإخوان مدرستان: مدرسة الدعوة، ومدرسة التنظيم، مدرسة الدعوة تتمثّل في فكرتها ومبادئها، وهذه يحملها كل إنسان يحمل الفكر الوسطي،سواء كانت باسم الإخوان، أو باسم أي جماعة أخرى. أما مدرسة التنظيم، فهي الجماعة بتنظيمها، وهيكلها الإداري، وشكلها الذي يعمل من داخلها، وهذه لا يدخلها إلا من تحقّقت فيه شروط معيّنة، يعرفها أعضاء التنظيم، بتفاصيل معينة ومعروفة.
الراصد والمشاهد، لأداء الجماعة والتنظيم في الأزمات الأخيرة، يجدها بلغت من الشدّة والتفاقم، ما لم تبلغه الجماعة من قبل، فقد تعرّضت الجماعة لأزمات كبرى من قبل، منذ أيام الملك فاروق، وذلك باغتيال مرشدها ومؤسّسها الأول: الشيخ حسن البنا رحمه الله، وكان وقتها قد ألقي بمعظم أفرادها خلف أسوار السجون والمعتقلات، وأصبحت الإخوان لأول مرّة بلا وجود قانوني، بعد صدور قرار حلّها في 8/ 12/ 1948م.
ولكن الإخوان، خرجوا من هذه الأزمة الكبرى، وعملوا في المجتمع بلا لافتة، حتى قال شيخنا القرضاوي عن هذه المرحلة: لقد كانت تسبقنا الدعوة، وكنّا أكثر شهرة وتحرّكا وبركة، أكثر من وضعنا القانوني، لأن الحاضنة الشعبية، وانتماء المؤيدين للجماعة كان أكبر من تلك المحنة.
ثم جاءت محنة صِدَام الإخوان مع الحكم العسكري وجمال عبد الناصر، وكانت محنة قاسية، غيّبت الإخوان رسميا عن المجتمع عشرين عاما، من 1954 وحتى 1974، ولكن ظلّت حاضنة الإخوان الشعبية، سواء محليّا أو إقليمّا أو دوليّا موجودة، بل كانت حركة أعضاء الجماعة بالخارج، سببا في إنشاء ما أطلق عليه فيما بعد: التنظيم الدولي للإخوان المسلمين،فقد حوّلوا بذكاء وإخلاص شديد،المحنة إلى منحة، وجعلوا من المطاردة والتضييق سببا للانفراجة، وفتح مجالات في بلاد أخرى، وهو ما ترجم لمراكز إسلامية في الغرب، ثم مدارس إسلامية، ومؤسسات تحافظ على الكيان الإسلامي في الغرب.
حتى في عهد السادات، ثم مبارك،تعرّضت الجماعة لمحاكمات عسكرية، وتضييق أمني شديد، كان عدد من يدخلون الإخوان أكثر بكثير من ذي قبل، فلم تمنعهم المحنة ولا الأزمات، أن يتمدّدوا وينتشروا في القرى والنجوع والمدن، والنقابات، حتى انضم للدفاع عنهم في المحاكمات: هيئات قانونية عربية وغربية.
إلى أن جاء اختبار تولّي الحكم في ثورة يناير، ثم انقلاب الثالث من تموز (يوليو) 2013م، فكان كاشفا عن خلل وسوس نخر في عظم التنظيم، كنا نكتب عنه من قبل، من أن أي عمل جماعي أو تنظيمي يغيب عنه: المؤسّسيّة، والشفافية في اتّخاذ القرار، وفي الجانب المالي، وفي جانب الدخول لهذا التنظيم، أو الخروج منه، هي عوامل تؤدّي بلا شك إلى انتهائه.إن معضلات ومشاكل التنظيم، لم تكن وليدة الانقلاب، ولا تجربة الحكم، بل هي وليدة سنوات مضت، حكمت فيه الشللية الجماعة في معظم تنظيماتها، سواء داخل مصر، أو خارجها، وعندما غاب العمل المؤسّسي، وتقدّم التمسّك بالمناصب والمواقع، على حساب العمل والإخلاص للفكرة نفسها، وتغليب مبدأ السمع والطاعة، على مبدأ النقاش والشفافية بكل درجاتها ومستوياتها.
هذه عوامل ،عندما تتوافر وتكثر في تنظيم، مهما كان فيه من درجة صلاح أفراده، لا شك أن ذلك يؤذن بقرب انتهائه، تلك سنة الله في كونه، فكم من حضارات قامت، ودول نهضت، ثم دار الزمان دورته، وسرت في هذه الكيانات عوامل الضعف، ثم الاندثار والانتهاء، وليس تنظيم الإخوان، خارج إطار سنن الله في كونه، سينتهي لا محالة.
وهو ما نراه يلوح حاليا – للأسف -، وبخاصة في بعض فروع التنظيم، وعلى رأسها: مصر البلد الأم له، فعندما خرج أفراد التنظيم قديما من مصر مطاردين، خرجوا وهم يد واحدة، وكان التفكير في الدعوة أول همهم، ولكن هذه المرة تشظّى التنظيم، وانقسم على بعضه، ولم تعد قياداته، تملك رؤية للنهوض بالجماعة، فضلا عن الحفاظ على تماسكها، واحتواء أفرادها، ثم تجاوز قيم ومبادئ الفكرة نفسها، بل والانقلاب عليها، وشرعنة ذلك، وجعلها نظام إدارة لها.
نقول ذلك للأسف، لأن تنظيما كالإخوان له تاريخه، وأهميّته وثقله، فقد كان سدا منيعا أمام الأطماع الصهيونية في المنطقة، والمشاريع الاستعمارية، والضعف الشديد الذي وصل إليه، لا يبشّر بنهضة جديدة له، بل هي علامات الانتهاء والزوال، إلا أن يشاء الله شيئا آخر، ويتدارك القائمون عليه ذلك، بالنهوض به، فكريا، وخلقيا، ودعويا، قبل أن يتم النهوض به سياسيا وإداريا.
تبقى أفكار الإخوان، كما بيّنت في أول المقال، أو مدرسة الإخوان، وهي إحدى تمثلّات المدرسة الوسطية في العصر الحديث، لكن تنظيم الإخوان لم تعد أسباب بقائه ولا عوامله موجودة للأسف، وما نراه الآن هو ما يمكن أن نسميّه: القصور الذاتي للتنظيم، فهو يسير ببقايا أثره، وبقايا الصالحين منه.
ربما قام كيان جديد يطوّر من هذه الأفكار، ويرفع راية أخرى، كما رفع البنا منذ ما يقرب من مائة عام راية الإخوان، سواء كانت هذه الراية تيّارا، أو فكرا، أو مدرسة، أو تنظيما جديدا، كل هذا وارد في عالم الأفكار والمشاريع، وقد كانت تلك فكرة أفراد من الإخوان بعد حسن البنا، فقد اقترح ذلك من قبل الأستاذ البهي الخولي، وهو أحد كبار دعاة الإخوان المسلمين، وصاحب كتاب: (تذكرة الدعاة)، حين قال للقرضاوي بعد محنة 54: أرى أن تكتفي الجماعة بما قدّمت من تاريخ، وتعتزل العمل السياسي، وتركّز على عملها الدعوي.
وقالها الأستاذ محمود عبد الحليم، مؤلّف كتاب: (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ)،إذ كان يرى بعد خروج الإخوان من السجون سنة 1974 أن يركّزوا على أعمال فكرية وعلمية، ومدارس فكرية، تهتم بالبحث والفكر، وتنشئ رجالا لذلك.أي أن الفكرة لم تكن وليدة زماننا الحاضر فقط، وأن التفكير في بدائل للتنظيم بشكله الحالي،فكرة قديمة.
وقد كانت لدى شخينا القرضاوي فكرة أيضا للعمل، بعد الخروج من سجون عبد الناصر، أن يتحوّل الإخوان لتيار هادر كبير، بدل هذا الشكل التنظيمي، وكان حلما يراوده، وبخاصة بعد أن رأى تيار الصحوة الإسلامية في مصر، لا يتشكّل بشكل تنظيمي معروف، وكان له تصوّر لم يكتبه للأسف، ولم يتكلّم في تفاصيله،ولكن كان يُسّر لي ولغيري به.
لا شك أن إصلاح التنظيم،أحب لقلوب الكثيرين من المشفقين عليه، لكنه بات أمرا صعبا، ولا نرى مؤهّلين لذلك فيه، مع احترامنا وتقديرنا لحسن نوايا الكثيرين، لكن حسن النوايا لا يقيم معوجا، ولا يصلح ما فسد في كيانات بهذا الحجم، وليس معنى كلامنا دعوة لهدمه، أو تعجّل إنهائه، بل هو دعوة للتفكير الجاد في بدائل، لأن التنظيم وسيلة،وغاية كل مسلم الكبرى: خدمة دينه وأمته، فالهدف ثابت، والوسائل متغيّرة، وتنظيم الإخوان وسيلة، انتهت صلاحيته.
*باحث إسلامي مصري
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)