بقلم : سهيل الغنّوشي *
صحيح ، أنّه لم يكن انقلابا عسكريّا، أو نمطيّا تقليديّا، يُعلَّق فيه الدستور، ويُذاع البيان منذ اليوم الأوّل، ويخرج الجيش من ثكناته، وينتشر بمدرّعاته في البلاد، وتُحلّ الأحزاب، وتُكمّم الأفواه.. كان انقلابا بوجه مدني، وتمّ تدريجيّا، مبطّنا ،مستندا للدستور، ثمّ أصبح سافرا..ولكن العبرة بالجوهر: تعليق الدستور، والتفرّد بالسلطة..
طبعا الاستبداد،والتفرّد بالسلطة، بلا حدود ولا سقف زمني، مرفوض وبشدّة.. وكذلك المساس من قريب أو من بعيد، بالحرّية باعتبارهاحقّا طبيعيا ،والمكسب اليتيم الذي خرجنا به من الثورة، وإن كنت مقتنعا بأنّنا كنّا في وضع مزر ومقرف، وحالة انسداد غير قابلة للاستمرار، وبأنّ التغيير كان ولا يزال ضروريّا وملحّا في تونس، ومقتنع وقدّرت منذ البداية ،بأنّ الحرّيات لن يقع المساس بها، لأنّ المطلوب صيغة جديدة من الديمقراطية المغشوشة الشكليّة، لا دكتاتورية سافرة.
ولكن إذا كان الأمر، قد يحتمل خطوة 25 يوليو، وكانت شرائح من الشعب مستعدّة، كلّ بدوافعه، لإعطاء فرصة للرئيس، لحلحلة الأوضاع والانسداد، وإطلاق فترة انتقاليّة، تكون قصيرة وبخطوات واضحة، فإنّ أداء قيس سعيّد وإدارته للمشهد خلال الأيّام والأسابيع اللاحقة، كان “ليس بالإمكان أسوأ وأتعس ممّا كان”، خصوصا في علاقته بالبطء ،والغموض ،والأداء الاتصالي الكارثي، وتكرار الحركات الاستعراضيّة..
في تقديري، أنّ السيناريو الأصلي،هو فترة انتقالية لإعادة إنتاج الديمقراطية المغشوشة الشكليّة، وأنّ التباطؤ، كان لامتصاص الغضب وردّة الفعل، وأنّ الخطوتين الآخرتين (تمديد 25 أب وتعليق 22 سبتمبر)، كانتا لرفع السقف،من أجل تمرير السيناريو الأصلي، كما يحدث عادة.
وفي تقديري، وبعيدا عن الاستقطاب الثنائي والاصطفاف (مع وضدّ).. قيس سعيّد انقلب على الدستور،لكنّه لم ينقلب على ديمقراطية ،ولا على انتقال ديمقراطي،وما فعله لا هو خروج عن مسار صحيح ،ولا هو تصحيح للمسار.. هو منعرج في نفس المسار الدائري العبثي الذي ندور فيه منذ عقود.. ومحاولة بائسة،لتسريح المسار، بعد أن تعطّل وأصابه الشلل، بما كان ينذر بانفجار اجتماعي ،أو تحوّل تونس إلى دولة فاشلة، وبالتالي فوضى، بما يشكّل تهديدا لركيزة أساسية في مشروع منظومة الوصاية والفساد التي تحكم تونس منذ عقود أو قرون، بمشروعها المتمثّل في إبقاء تونس في حالة استقرار هشّ/حرج في ظلّ الوصاية.وهو بذلك شبيه جدّا بانقلاب 87، من ناحية دوافعه وغايته وطريقته، والتشابه في الجوهر بين ما قبله وما بعده، رغم الإختلافات الشكليّة.
ولازلت أرجّح، أنّ قيس سعيّد، تفصيل في قصّة وترتيبات أكبر بكثير، وأنّ دوره في الإنقلاب أكبر من مجرّد واجهة، وأقلّ من أن يكون هو المهندس والقائد،وما أقدم عليه، هو منعرج وهزّة في مسار منحرف أصلا.. المسار الدائري الذي سيعود بنا إلى المربّع الأوّل،سواء سقط الانقلاب أم لم يسقط..
وكما فاز في الانتخابات، ليس بمؤهّلاته ،ولا رؤيته، أو مشروعه، بل لأنّه وجد في المكان المناسب في الوقت المناسب،فكان هو المتاح، ليعاقب به الناخب، الطبقة السياسية التي خذلته ومرشّحيها، ثمّ في الجولة الثانية، كان هو الوسيلة الوحيدة، التي يمكن أن يمنع بها الشعب وصول منافسه المرفوض والمستفزّ إلى الرئاسة،أي كان مرشّح الصدفة ورئيس الضرورة..وفي الجولتين، نقمة الشعب صبّت في مصلحته.
نفس الشيء، تكرّر هذه المرّة،فقيس سعيّد ليس له أنصار ومؤيّدون لشخصه أو مشروعه،ولذلك كانت تجمّعاته الانتخابية،هي الأصغر حجما من بين المرشّحين،ولم أتفاجأ أبدا بعدم خروج مظاهرات لتأييده،وبالعدد الصغير جدّا الذي شارك في وقفة الأمس.
لكن، كان هو المتاح ليكون الأساس الذي يبنى عليه المشهد/السيناريو الجديد.. والانقلاب مرّ بسلاسة، ليس بسبب الشعبيّة، ولكن بسبب حالة الاحباط واللامبالاة التي وصلها الشعب، والغريق يتشبّث بقشّة.. والنقمة على الطبقة السياسية التي أوصلته إلى هذه الحالة.. ونقمته وقرفه من مشهد ما قبل 25 يوليو، صبّت مرّة أخرى في صالح قيس سعيّد.
السؤال، هو كيف سمح قيس سعيّد لنفسه، وتجرّأ على ما لم يتجرّا عليه لا بورقيبة ولا بن علي، وهو لا يملك شيئا من قوّتهما، وجمّع في يده سلطات مطلقة، بما لا يتوافر إلاّ في الحكم العسكري أو النظام الملكي.. وحتّى في تلك الأنظمة كثيرا ما يكون هنالك ديكور ديمقراطي ؟!
مالذي حدث لشعب، أسقط نظام بن علي المرعب، حتّى يسمح بذلك، ويمرّ الأمر بسلاسة نسبيّا.. وذلك رغم تعاسة وكارثيّة أداء قيس سعيّد ،والرداءة في إخراج المسلسل.
عمليّة الالتفاف، وانحراف المسار تمّت في 1956،ولم يصحّح أبدا،وكان ثمرتها الطبيعية نظام بورقيبة، ثمّ نظام بن علي لمّا عجز الأوّل.
تُرك الأوّل ،ليسقط لمّا عجز، بعد أن أجريت عليه أكثر من عمليّة تجميل (خصوصا في 78، وفي 84)، ثمّ تُرك الثاني ليسقط، لمّا احترقت ورقته،وانتهت صلوحيّته، وارتفعت كلفة دعمه، وأصبح عبئا على الرّاعي الأجنبي،واستنفذ أغراضه، وحان وقت استبداله، ببدائل جاهزة أو شبه جاهزة.
ثورة أو انتفاضة ،دفعت الخارج والجيش للتخلّي عن النّظام فسقط.. سقط الاستبداد والفساد، وكان هنالك زخم ثوري حقيقي ،واصطفاف وطني عابر للتقسيمات، تجلّى خلال أسابيع الثورة، وتوّج بملحمة 14 يناير..
شعب أسقط نظاما محصّنا مرعبا في 3 أسابيع،أصبحت تطلّعاته وأحلامه وثقته في نفسه، وقدرته على تحقيق تطلّعاته بلا سقف وبلا حدود..
ولكنّها ،كانت ثورة بلا قيادة وبلا مشروع، قام بها شعب غير مؤطّر..فماذا حدث وماذا كانت النتيجة؟
وقع ترتيب المشهد، بحيث أفرغت الثورة من أيّ مضمون، وتمّ تمييع أهدافها.. أي استبدال الواجهة/الفترينة وأدوات التحكّم والتنفيذ،وظلّت نفس منظومة الوصاية والفساد تحكم بنفس المشروع: “إبقاء تونس في حالة استقرار هشّ/حرج في ظلّ الوصاية”، وإبقاء الشعب تحت السيطرة، واقتصاد ريعي هشّ غير منتج ،وغير مصنّع ،تحت رحمة القروض والمساعدات، ومنع أيّ تغيير في السياسات والأوضاع، وأيّ تحرّر أو نهوض أو عدل أو ديمقراطية حقيقية.
* أكاديمي تونسي
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)
زر الذهاب إلى الأعلى