مقالات

عندما يتحوّل الرئيس قيس سعيّد إلى جهاز مبرمج للاستقبال فقط !!

محمد كريشان*

قبل عدة أشهر ،اتصل بي هاتفيا أحد مستشاري الرئيس التونسي قيس سعيّد، ليقترح عليَّ منصب مسؤول الاعلام في قصر قرطاج.للأمانة،لم يفصح الرجل ما إذا كان الرئيس نفسه هو من كلّفه بذلك، لكن هذا ما كان مفهوما ضمنا من المحادثة ،على كل حال.
شكرت الرجل على الثقة ،لكني رددت فورا، بأنني لم أعمل طوال حياتي إلا في مهنة الصحافة، التي لا أجيد غيرها، على فرض أني أجيدها فعلا،ومن الصعب أن أقبل في هذا العمر منصبا سياسيا ،حتى وإن كان ذا صلة بالصحافة. وأضفت بأنني، مع ذلك، على استعداد كامل للمساعدة في أي استشارة إعلامية ،حتى لو تطلّبت مني القدوم إلى تونس، على أن تكون بلا مقابل،ولا تتحمّل الرئاسة،لا تكاليف السفر ،ولا الإقامة.
كان الرجل على غاية من التهذيب والتفهّم، ولم يطلب مني شيئا ،سوى أن يبقى هذا الموضوع طيّ الكتمان ،طالما أنني لم أقبل العرض،فوعدته بذلك. وطالما أن هذا المستشار لم يعد ضمن فريق الرئيس ،فقد رأيت أنه بات بالامكان رواية القصة، مع الاحتفاظ باسمه، ولكن ما هي المناسبة؟
المناسبة،هي ما بات عليه الظهور الاعلامي المتعدّد للرئيس سعيّد هذه الأسابيع من هنات،زادها فداحة تزلّف المتزلّفين، وتطبيل المطبّلين.الرئيس اليوم لا يحاور الصحفيين،ولا يلتقي بهم، ولا يكلّف نفسه عناء الجلوس مع إعلامه الوطني، ليشرح له لماذا فعل ما فعل،ويسمح بطرح الأسئلة عليه ومجادلته، عسى أن يتّضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود،لأنه يفضّل للأسف الحديث منفردا.
الرئيس الآن، في مكتبه ،أو في زياراته إلى بعض المواقع، تحوّل إلى ما يشبه جهازا مبرمجا سلفا للإرسال فقط،ويرفض استقبال أي شيء، إنه يبدو كمن أدمن الحديث مع نفسه وإلى نفسه. يستقبل الوفود والمسؤولين،ليلقي عليهم المحاضرة تلو الأخرى باستعارات مختلفة، دينية، وتاريخية، وبحث عن سجع لغوي لا داعي له ولا فائدة منه. ربّما هو لهذا السبب،يكره كلمة حوار ويكرّر معارضته لها، ليس مع الفاسدين فقط كما يسمّيهم، بل مع الجميع، فالواضح أنه لا يستطيع إلاّ أن يحاضر، كما كان يفعل لسنوات أمام طلبته في الجامعة، دون نقاش أو تعقيب. وإن كان ذلك مقبولا، جدلا، مع طلاب علم،فما الداعي له مع فاعلين سياسيين واقتصاديين تشفق عليهم، وهم يجلسون أمامه صامتين، لا حول لهم ولا قوة.
ترسّخت هذه الشخصية للرئيس تدريجيا طوال الأشهر الماضية، لكنه ومنذ قراره في 25 يوليو( تموز) الماضي الانقلاب على الدستور الذي أقسم عليه ومجاراته في ذلك من قبل المؤسستان الأمنية والعسكرية، بات يشعر بنوع من الثقة والمتعة في أن يظلّ كذلك. هو يفعله الآن بأكثر حماسة ،طالما أن أغلب الشعب، كما يقال، يؤيّده مزهُوا بشعار “كُلنا قيس سعيّد”،الذي يردّده أنصاره في كل محفل،بدعوى أن الرجل أراحهم من عفن المرحلة الماضية وسياسييها النزقين والفاسدين.
ترى،ماذا كان عساي أفعل،لو كنتُ اليوم مسؤول الاعلام في القصر وعليَّ نصح الرئيس حول أفضل الطرق للحديث إلى الاعلام والشعب؟؟ وكيف يمكن لي أن أفلح في إقناعه،بأن التعامل مع الاعلام فن يُدرّس ومهارات يتدرّب عليها الساسة في كل دول العالم،حتى تصل رسائلهم بوضوح إلى الرأي العام ويتجنّبوا، في الوقت نفسه،المطبّات وحتى الحماقات؟ لقد عرفت تونس قادة ملكوا موهبة الحديث إلى الناس،فالحبيب بورقيبة خطيب مفوّه، والباجي قايد السبسي من نفس المدرسة، أما بن علي فقد كان مدركا لحدوده، لذا فضّل في الغالب الخطب المكتوبة بعناية.
ما يزيد من صعوبة، أو استحالة، أن ألعب أنا، أو غيري، مثل هذا الدور، إن كل من عرف الرئيس سعيّد يجمع على أنه شخص عنيد للغاية، لا يحب الاستماع إلى أحد، وهو ما يبرّر ربما استقالة معظم المستشارين الذين عملوا معه. إنها صفة مخيفة،لكنها كارثية إن هي كانت لدى رجل في مثل منصبه ،لذا لا فائدة في ذكر النهايات المأساوية للكثير منهم.
أما ما يزيد الأمر قتامة، فهو أن “حليمة” التي تعرفونها لعقود في الاعلام التونسي،عادت إلى عاداتها القديمة: دعاية فجّة، هذيان محموم، مديح مبتذل، كذب بواح، لم يسهم فقط في النفخ المفتعل والمنافق في الرجل وتشويه خصومه بل وصل إلى حد توتير علاقات تونس بدولة جارة مثل ليبيا، بناء على تقارير مفبركة هي السخف بعينه. وإذا كان هذا النهج اقتصر سنوات بورقيبة، وإلى حد ما سنوات بن علي، على بعض الصحف المعروفة والأقلام الموصومة ،فإنه مع قيس سعيّد، أصبح على نطاق واسع وخانق ،بعد أن انضم إلى ما سبق ،جيش جرّار في مواقع التواصل الاجتماعي.
هؤلاء بنفخهم في صورة الرجل عن غير هدى، إنما يصنعون منه تدريجيا، صنما من الشكولاطة، قد لا يمانعون يوما في التهامه إذا تغيّرت الأوضاع، أو صنما من الحجر سيسقط يوما على رؤوسهم، ورؤوسنا جميعا.

*إعلامي تونسي

(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق