عصام السعدي*
يصرّ كثير من المحللين على النظر إلى ما جرى في أفغانستان من زاوية نظرية المؤامرة، ومن زاوية عدم تصديق أن أمريكا يمكن أن تهزم، أمام حركة مثل طالبان،لا تملك كثيرا من المقدّرات العسكرية والعددية والمادية، مقابل ما تملكه أمريكا من جيش هو الأحدث والأقوى عالميا، والذي يسانده جيش الحكومة الأفغانية البائدة المرتبطة بأمريكا.
وبالنظر إلى ما جرى من انهيار سريع لجيش الحكومة، وانسحاب متسرّع مرتبك للجيش الأمريكي، فإن علينا ان نتذكّر ما يلي:
– إن كل قوى المقاومة للاحتلال على مرّ التاريخ،كانت دائما أقل عدة وعتادا. وبالتالي فإن ميزان القوى مختلّ دائما لصالح جيوش الاحتلال.
-إن نقطة قوة أي مقاومة، لأي احتلال، هي قناعتها بأنها تدافع عن حقها في وطنها وكرامتها واستقلالها.
-إن الاحتلال، مهما بلغ من القوة، يبقى غريبا ودون حاضنة شعبية. وإن قوى المقاومة مهما كانت ضعيفة ماديا، فإنها تتحرّك على أرضها وبين حاضنتها الشعبية.
-إن قدرة الاحتلال وعملائه على تحمّل الخسائر وتقديم التضحيات، أقل بكثير من قدرة قوى المقاومة على ذلك.
-إن القوة العمياء للاحتلال،لا تستطيع فهم ثقافة الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، وتعتقد ان بإمكانها تغيير ثقافة وعقائد الشعوب بالقوة وبعامل الزمن.
بدون هذه المحددات والقواعد في فهم المقاومة والاحتلال، فلن نستطيع فهم انتصار فيتنام وكوبا والجزائر على المحتلين وعملائهم. ولن نستطيع فهم انسحاب الصهاينة من لبنان عام ٢٠٠٠،وسنخفق حتما في فهم إصرار الشعب الفلسطيني على المقاومة، أمام واحد من أقوى جيوش العالم وأكثرها إجراما.
إن ما جرى في أفغانستان ليس بدعة، إذن، ولا يخرج عن هذا الفهم ( إلا بِلَيِّ عنق تاريخ الاحتلالات وتاريخ مقاومتها على امتداد هذا الكوكب، وإلاّ بالتمترس عند أيديولوجية ترفض انتصار من يختلفون عنها).
ومن المثير للاستغراب، أن يصرّ هؤلاء المحلّلون، على نظرية المؤامرة، وعلى قناعتهم باستحالة النصر على قوة عالمية كبرى،رغم اعتراف أمريكا بأنها لم تتوقّع ما جرى كما جاء على لسان بايدن وجنرالاته وسياسييه، وكما عبّر عنه حلفاؤه، وخاصة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا ( قالت السيدة ميركل إن ما جرى في أفغانستان مرير ومريع، وقال بايدن :إن أفغانستان مقبرة الامبراطوريات، وصرح ماكرون وجونسون بما يشبه ذلك)، ومع ذلك، فإن هؤلاء ما زالوا غير مصدّقين، أن هزيمة حاقت بأمريكا، رغم فرار أشرف غني بطريقة مُذلّة، وانهيار منظومته العسكرية، وسيطرة طالبان على كل أرجاء أفغانستان، وانشغال الجيش الأمريكي بمهمة واحدة، هي إجلاء قواته ورعاياه وعملائه، في مشاهد تذكّر برحيلهم عن سايغون/ فيتنام.
ويحتجّ هؤلاء بالمفاوضات التي كانت وما زالت تجري في الدوحة، كدليل على سيناريو متّفق عليه بين طالبان والأمريكان، وينسون أن مثل هذه المحادثات، كانت تجري في باريس، بين الفيتناميبن والأمريكان،عشية تحرير سايغون. فهل كان انسحاب أمريكا من فيتنام سيناريو متّفقا عليه، كذلك.
لقد أخفقت أمريكا، عسكريا، واستخباريا وأخلاقيا، وأخفق قبلها السوفييت، ومن قبلهم أخفقت فرنسا في الجزائر، وبريطانيا في كل مستعمراتها… وتاريخيا، فقد انهارت امبراطوريات شاسعة كالفرس والروم والمغول والصليبيين، أمام جيوش المسلمين،التي كانت -دائما- أضعف قوة وأقل عدّة وعددا ومددا. وها نحن نرى اليوم، كيف تقف دولة الاحتلال في فلسطين، حائرة مرتبكة، أمام مقاومة غزّة المحاصرة منذ ١٥ عاما.
قد يقول قائل،إن أمريكا تستطيع تدمير طالبان وأفغانستان على رؤوس أهلها لو أرادت، وهذا صحيح بالقياس المادي، وصحيح كذلك، أن الصهاينة يستطيعون فعل ذلك في غزّة،لكنه الشعور باللاجدوى ،وعدم القدرة على التضحية، وتحمّل الخسائر من قبل قوى الاحتلال، والعقيدة الراسخة لدى الشعوب المقهورة ،بأنها صاحبة حق يستحق التضحية.
هي هزيمة كبيرة، لأمريكا إذن.
وإن دحر الاحتلال قبل المقاومة، يتمّ عادة بالنقاط ،وليس بالضربة القاضية، وهذه حرب دامت عشرين عاما،سجّل فيها الشعب الأفغاني نقاطا كثيرة، كامت كفيلة بأن يرفع قفازه، في منتصف الحلبة،منتصرا.
أما ما سيحصل بعد ذلك، فيحتاج حديثا آخر، ربما نعود إليه.
*شاعر وكاتب فلسطيني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)