بقلم: زكي سعد بني ارشيد*
نتيجة لسيولة النظام السياسي التونسي، وغياب عراقة الأعراف الديمقراطية، وغموض النص الدستوري، وبروز أكثر من رأس للسلطة،وفشل الأطراف المتنازعة في التوافق على توزيع السلطة والنفوذ، وعودة بعض رموز النظام السابق،وتمدّد نفوذ رأس المال في معادلة الحضور والتأثير السياسي، وعدم قدرة الصيغ السياسية ما بعد الثورة التونسية على الإقلاع،وحل مشاكل الدولة ،وتحديدا الاقتصادية والاجتماعية، وأخيرا عدم القدرة على مواجهة الموجة الجديدة من انتشار الوباء المتطوّر من فايروس كورونا، وصلت الأوضاع في تونس إلى حالة انسداد قريب من حالة الاستعصاء، يضاف إلى كل ما تقدّم انتهازية الرئيس قيس سعيّد ،الذي يعاني من حالة نفسية مهووسة بالسلطة ،ومسكونة بوهم امتلاكها لمشروع، حيث بدأ في توظيف القضاء في تصفية خصومه ،وخاصة حركةالنهضة، وتصفية حضورها في الإدارة،وهي نقاط يلتقي فيها مع دوائر تاثير يسارية ومن المنظومة القديمة أيضاً…هوس الرئيس بالاستفراد والإقصاء،تجاوز ذلك إلى محاولة فرض رؤيته بخصوص نوعية وتركيبة الحكومة والتعديلات الدستورية والقانونية، وهو ما عبّر عنه الرئيس في خطابه يوم الأحد 25 تموز ( يوليو)الجاري، وأعلن فيه مجموعة إجراءات استنادا لقراءته للفصل الثمانين من الدستور .
صحيح ،أن المزاج الشعبي اقرب إلى الترحيب بما حصل، كرد فعل على طول الأزمة، وضعف الحصيلة ،ونجاح سعيّد في إبراز نفسه فوق الصراعات،عكس الاحزاب والبرلمان، ولم يكن المزاج الإعلامي بعيداً عن نفس الاتجاه .
في حين إن المختصين في القانون والفقه الدستوري ،عبّروا عن رفضهم لما اعتبروه انقلابا دستوريا يتناقض مع مبدأ التوازن بين السلطات، والغالب في المقاربة القانونية، هو تسجيل خرق الدستور ،وخلاف في ترتيب الموقف المتوجّب عن ذلك ،بين داع لإلغاء الإجراءات ،و مبرر لها.
اما المواقف السياسية ،فقد تراوحت بين مؤيد ومعارض :
-حركة الشعب والوطن رحّبا بما حصل،إضافة لعائلة عبّو من التيار الديموقراطي، في حين رفضت حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة والقطب الديموقراطي الاجتماعي (يسار )وحزب العمال (أقصى اليسار )والشعبي الجمهوري (لطفي المرايحي) هذه الإجراءات، ولكن الخارطة قابلة للتغيّر .
فحركة النهضة، انتقلت من خيار المواجهة عبر التعبئة ،إلى استبعاد خيار الشارع والتعامل السياسي مع الوضع الجديد .
وقلب تونس ،انتقل من الرفض إلى قدر من التبرير، استعدادا للتفاعل مع الأمر الواقع الجديد، وكذلك آفاق تونس والتكتل…جمعيات يسارية ،تستفيد من الوضع الجديد، وتبدي معارضة “لزجة “على أرضية حقوقية
،وأما اتحاد الشغل، فقد تعامل مع الإجراءات من داخلها، لضمان موقع في إدارة خارطة الطريق،والبحث عن الضمانات .
الأطراف الدولية:تاخّر الإعلان عن المواقف ،والغالب هو القبول بالوضع الجديد ،مع الضغط لعودة العمل البرلماني ،وتحييد القضاء ،وصيانة الحريات .
•الخلاصة :
الغالب ،هو القبول بأمر واقع جديد والاعتراف لقيس سعيّد بالاستفراد بمعركة الزعامة، في مواجهة خصمه راشد الغنوشي /حركة النهضة ،وعلامة ذلك إزاح، المشيشي ،وإهانة البرلمان ،وإلحاق أذى رمزي بحركة النهضة في تحرّكات اليوم التالي (الاحد).
في العمق ،ما يحصل اليوم يشبه ما حدث سنة 2013، أي إزاحة حركة النهضة عن السلطة .
هذه خلاصة جوهرية، ومهمة، وفِي الاكتفاء بها، أو طلب المزيد، سترتسم الخارطة الجديدة، وهامش تحرّك قيس سعيّد .
بصرف النظر عن الحديث عن تورّط بعض الأطراف الإقليمية تمويلا وتخطيطاً لهذه المرحلة، فإن ثمة جهات دولية نافذة ،ترحّب بما جرى، من خلال الاعتراف بالواقع الجديد ،والتعامل معه، باعتباره حركة تصحيحية، وليس انقلاباً على الدستور.
جزء من المجتمع المدني و السياسي ،الذي يرحّب بإزاحة حركة النهضة من السلطة، لن يقبل بتعطيل البرلمان ،وتوظيف القضاء في معركة واسعة، عنوانها مقاومة الفساد.
ولكن نزوة الاستفراد بالسلطة، لن تستثني أي مكوّن ديمقراطي ،كما حصل في دول مجاورة ،لأن الحكم السلطوي عقيم ،ولا يقبل معه شريكا، وسيأتي الدور على الجميع.
حركة النهضة، وشخصيات من عالم السياسة والإعلام ومكوّنات وطنية ،على خلاف مع قيس سعيّد، وتواجه تحديا في الاتفاق ،على برنامج عمل المستقبل، وتسعى للضغط على الرئيس ،من أجل إنهاء إغلاق أبواب البرلمان ،ورفع اليد عن المرفق القضائي ،وتهديد الحريّات، وتشكّل هذه العناوين، خاصرة رخوة لقيس سعيّد، ونقطة ضعف واضحة يصعب عليه تجاوزها.
أما ملف الحكومة ،فان لم يلجا سعيّد إلى تسويات وتنازلات سياسية، فإن استنساخ الحالة السابقة، هو السيناريو المرجّح، رئيس يقترح حكومة ،وبرلمان يسقطها، أو يرفض تزكية قوانينها .
في حين إن الملفات الدستورية و القانونية ،ستكون محل تجاذب كبير، والأرجح أن يجد الرئيس نفسه غير متمكّن من نصاب القرار في أغلب الملفات،نتيجة لطبيعة أطروحاته المخالفة للسائد لدى الطبقة السياسية .
الخلاصة :
طريق الانقلاب،ليست سالكة في هذه الملفّات،وليست سالكة أكثر في الملف الاقتصادي والمالي، إذ سينزل سعيّد من علياء الشعارات، إلى قساوة الواقع، و قد بيّنت التجربة،أن أقصر طريق للتصدّي للشعبوية هو توريطها في إدارة شؤون البلاد .
حركة النهضة، أمام فرصة لتجديد ذاتها وبنائها الداخلي ،والتقاط الأنفاس ،واسترداد الحضور والتأثير ،بعد مسار عشر سنوات عساها تعطي نفسها حياة جديدة.
وأولى الخطوات في ذلك ،أن تشرع في سياسة تجمع بين وضوح الموقف من الانقلاب،والبحث عن شراكات حقيقية للتصدي له ولخطواته المتوقّعة،وذلك بتوحيد الموقف من الحكومة القادمة، واقتراح خارطة طريق تفضي إلى تنظيم استفتاء ،ثم انتخابات رئاسية و تشريعية في أمد لا يتجاوز السنة، بعد إجراء تعديلات على الدستور ،ومراجعة القانون الانتخابي ،وقانون الاحزاب ،وتنظيم قطاع استطلاعات الراي .
إن معركة مواجهة ثنائية بين سعيّد والنهضة سيكسبها اليوم سعيّد، أما المعركة المشتركة للديموقراطيين في مواجهة الشعبوية ،فلن تكسبها إلا الديموقراطية ،وهذا هو المعنى الحقيقي لمواجهة الانقلاب.
*ناشط سياسي أردني
زر الذهاب إلى الأعلى