عصام تليمة*
كتب المفكّران الراحلان،مالك بن نبي، ومحمد الغزالي، عما أسموه: القابلية للاستعمار، أي أن الشعوب تهيّأ نفسيا، لأن تكون قابلة لاستعمارها، ومرحّبة بذلك، بل يوجد من يفرح بهذا الصنيع ويسعى إليه، وكتب المفكّر الراحل سيد قطب عن القابلية للاستعباد، بمقال مشهور له في مجلة (الرسالة) باسم (العبيد)، ووضعه في كتابه (دراسات إسلامية)، تحدّث فيه عن أناس لديهم الاستعداد لدفع ضريبة الذل والعبودية، وليس لديهم استعداد لدفع ضريبة الكرامة، وقد خلقهم الله أحرارا، لكنهم لا يسعهم إلا أن يعيشوا عبيدا، ولا يحبّون إلا هذه المعيشة. وكتب المفكر الشيعي علي شريعتي عن القابلية للاستحمار، أي أن يستغفل الناس، وأن يقبلوا أن يعيشوا مغفلين، وأن يستحمرهم بعض الناس!!
والآن نرى بعض سلوكيات القطيع التي يؤصّل لها، وتنتشر بين بعض الناس، وهو ما يمكن تسميته بـ: (القابلية للاستخراف)، أي أن يتحوّل سلوك بعض الناس لسلوك الخرفان، يهشّها الراعي بالعصا فتسير، أو يوجّهها بلا إرادة أو تفكير، وقد مكّنهم الله من حرية الاختيار والتفكير والرفض، ليس رغما عنهم، بل بكامل إرادتهم، وذلك وفق أفكار مؤسّسة لصناعة الاستخراف، تلبس أحيانا لبوس الوطنية، وأحيانا أخرى لباس التديّن، والوطن والدين منها براء.
فالقرآن الكريم يرفض منطق الاستخراف، يقول تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) ويقول: (وهديناه النجدين)،فالله قد خلق الإنسان له إرادة حرة، ورأي وتعبير، فلم يعطه الله العقل ليعطّله، أو الإرادة الحرّة ليلغيها، وكما قال ابن الجوزي: إن العقل للإنسان للشمعة، وحريّ بمن أعطاه الله شمعة، ألا يطفئها ويسير في الظلام.
من مظاهر الاستخراف ،إعطاء شيك على بياض باسم الثقة أو المحبة، دون رؤية أو خطة واضحة، أو هداية من الأمر، فتراه في الأحزاب السياسية باسم (الولاء الحزبي)، وتراه في الجماعات الإسلامية تحت باب (السمع والطاعة)،وفي الجماعات المسيحية، تحت باب الكهنوت الديني، أو: اتبعني وأنت أعمى، وتحشد النصوص الدينية التي تأمر بذلك، بأن اسمع وأطع، رغم أن النصوص بدأت بكلمة السمع، وليس معناها الإذعان، بل السمع أي يسمع ويعقل، ثم يطع، أي أنها طاعة مبصرة وليست عمياء، والإيمان لا يقوم على التقليد، بل يقوم على التفكير، وأكبر قضية إيمانية في الكون،وهي وجود الله سبحانه وتعالى ثبتت بالعقل!!
وبعض مظاهر الاستخراف واضحة في التفكير والعمل، فهو يقبل ممن يؤمن به أي خطأ، بل خطيئة، ولو فعلت خارج كيانه لأقام الدنيا وما أقعدها، وأنكرها أشد الإنكار، فهو كما يقول المسيح عليه السلام: يرى القذى في أعين الناس، ولا يرى الخشبة في عينه، وكما قال محمد صلى الله عليه وسلم مستنكرا على بني إسرائيل: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
وتجد بعض مظاهر الاستخراف في بعض هؤلاء ،عندما يعلّق على ما تكتب، فهو قد كون رأيا مسبقا عنك، وقد صنّفك، رغم أنه لم يحط علما بما تكتب، ولم يحصر ما كتبته، لكنه وجه بشكل معين فاتجه، فلو كتب آية أو حديثا، لا عنوان لهما، إلا التذكير بها، وجدت ثقافة الاستخراف تظهر واضحة، بأن يدخل يعلّق، داخلا في نيّة الكاتب، وتوجيه ما ينويه، فهو لا ينوي إلا فلانا، ولا يقصد إلا كذا، رغم أن كلام الكاتب لا يتضح ما يقصده، وقد قال العلماء قديما: لازم المذهب ليس بمذهب، أي أن ما تفهمه من كلام شخص ليس شرطا أن يكون كلامه، أو صحيح النسبة إليه، فلربما قصد معنى آخر ،فليس من حقك أن تحصر تفسير الكلام فيما فهمته أنت.
ومن مظاهر الاستخراف الواضحة: إذا صدرت الأوامر من راعي القطيع بتشويه شخص ما أو كيان، يسعى لتنفيذ الأمر بكل مالديه من طاقة ،وكأنه يجاهد في سبيل الله، دون معرفة منه ماذا فعل الشخص، لكن يكفي أن فلانا الذي يثق فيه قد جرح فيه، ولو كان التجريح يصل إلى حدود الله التي تتطلّب شهودا بوصف معيّن صعّبه الشرع لعلة ألا يتساهل الناس في سمعة بعضهم بعضا، ولكن ثقافة الاستخراف تلغي الشرع هنا، وتتقدم بقوة كي يحقق مزيدا من رضا راعي القطيع، أو من يشاركونه تفكير القطيع، ناسين رب القطيع، ورب الراعي!!
أوصاف ومظاهر الخرفنة كثيرة، لا يتّسع مقال واحد لذكرها، لكني عرضت لبعضها، تحتاج لسلسلة مقالات، لكن الإشارة هنا كافية إلى حد ما.
نسيت أهم صفة من القابلية للاستخراف، وهي أن بعض من سيقرأون هذا المقال ممن تنطبق عليهم مواصفات: (القابلية للاستخراف)، سيشّنعون بكاتب المقال أنه يقصدهم ويعرّض بهم، وينتهك حرمهم وحماهم، وسوف تجد كل فصيل يرمي به الآخر، وأن كاتب المقال يقصدهم، وأول هؤلاء: إعلام الانقلاب، وهو أكبر راعي للاستخراف في الوطن!!
*باحث إسلامي مصري
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)