بقلم : ساري عُرابي*
الهبّة المكثّفة المتنقّلة من باب العمود، إلى حيّ الشيخ جراح، إلى المسجد الأقصى، والتي تمكّنت من دفع الاحتلال، لتفكيك إجراءاته الأمنيّة في ساحة باب العمود، والمناورة التكتيكية، عبر المحكمة العليا في قضية الشيخ جراح، والتراجع عن اقتحام المسجد الأقصى في مسيرة استيطانية ،كان يجري الإعداد لها من شهور.. هذه الهبّة، يمكن عدّها من أهم التحوّلات المفصلية في تاريخ كفاح الفلسطينيين من حيثية التوقيت والنتائج المادية والمعنوية.
من حيث التوقيت، جاءت في وقت عصيب داخليّا، يتّسم بانسداد تاريخيّ غير مسبوق، ناجم أساسا عن السياسات التي انتهجتها قيادة السلطة الفلسطينية، وترفض التحوّل عنها، بالرغم من كل المخاطر التي تهدّد الفلسطينيين بالتصفية، ثم جاءت وسط حالة من الإحباط بعد إلغاء الانتخابات التشريعية، ليس لأنّ الجماهير حريصة على الانتخابات، ولكن لدلالة الإلغاء على استعصاء حلّ الأزمة الداخلية، بتمسّك هذه القيادة بخياراتها ،سواء في الصراع مع الاحتلال، أم في العلاقات الوطنيّة الداخلية.
ومن حيث التوقيت كذلك، جاءت الهبّة بعد موجة تطبيع واسعة، لا بمجرد إقامة علاقات تطبيعية مع الاحتلال فحسب، ولكن بعلاقات تحالفية تخندقية رافقتها دعاية سوداء، لا تهدف إلى تسويغ التخليّ عن الفلسطينيين، بقدر ما تهدف إلى تسويغ العلاقة التحالفية مع العدوّ، فانتقلت من تنميط الفلسطينيين وشيطنتهم ،إلى تبنّي السردية الصهيونية وترويجها.
جاءت الهبّة من حيث النتائج إذن، لتفتح نافذة في قلب الانسداد التاريخي الذي بدا مستعصيا، لا سيّما بعد حالة الحيرة الكاسحة، التي تساءل فيها كثيرون عن البدائل للعمل من خارج نفق السلطة الذي خنق الفلسطينيين وشلّ نضالهم، وإذا بالمسلك الصحيح في خيار المواجهة الأصيل، واستثمار نقاط التثوير الخالدة، بالجماهير التي تكتنز كلّ هذا الغضب، وتمتلك كلّ هذا الذاكرة الكفاحية والوعي النضالي.
ومن حيث النتائج كذلك، أبطلت الهبّة المفاعيل المعنوية المحبطة لموجات التطبيع وما رافقها من دعاية، وكشفت زيف هذه الدعاية، وحشرت أصحابها في الزاوية. والأهمّ في هذه النقطة، أنها كشفت من جديد عمق الحضور الفلسطيني والمقدسي في الوجدان العربي والإسلامي، مما يدلّ على أنّ فلسطين من النماذج المهيمنة التي سرعان ما تصعد إلى سطح الفعل والتفاعل بعد عمليات طمس عميقة ومبرمجة، كما أنّها وفي السياق نفسه، دلّت على جلاء عدالة القضيّة على النحو الذي لا يحتاج أكثر من تعزيزها بالصمود والمواجهة.
لم يكن الاحتلال يتمدّد استعماريّا في تكريس وقائعه الاستيطانية والتصفوية للوجود الفلسطيني، إلا في فراغ من الهدوء، هذا الفراغ وفّره وجود سلطة في ظلّ الاحتلال، تغطّى بها الاحتلال للتمدد إقليميّا ودوليّا، والأخطر للتمدّد استعماريّا في فلسطين.تعود الهبّة أخيرا لإبراز حقيقة أنّ العالم لا يأبه للضحية المستكينة، فالمواجهة وحدها التي تبطل التمدّد في الفضاءات الإقليمية والدولية خارج فلسطين، والأهمّ أنها وحدها التي تبطل النجاحات الإسرائيلية على الأرض، تماما كما تجدّد الطريق الأصيلة في الصراع مع الاحتلال، بعد سنوات من التخبّط داخل نفق السلطة، ومحاولة الإصلاح من داخله، أو إثبات الحضور فيه.
بدا الاحتلال مرتبكا في التعامل مع الهبّة، في حلقة جديدة من سلسلة رضوخه لصمود المقدسيين، كان من حلقاتها تراجعه عن إجراءاته في باب الأسباط في العام 2017، وهبّة مُصلّى. وباب الرحمة في العام 2019، وأخيرا في الهبّة المكثفة بقضاياها الثلاث سالفة الذكر. هذا الارتباك سببه مفارقة تكبّل بطش الاحتلال، وهي خشيته من أن تتمدّد هذه الهبّات إلى مساحات أوسع مما قد يبطل، أو يشوّش في أقلّ الأحوال، على نجاحاته الاستراتيجية الداخلية والخارجية التي تمدّدت في هذا الفراغ من الهدوء.
لا يدلّ ذلك إلا على الإمكان الفلسطيني، بالرغم من فارق القوّة الذي لا يوصف، ومن انكشاف ظروف الفلسطينيين، وهبّتهم في ظروف مستحيلة. لا يعني ذلك تصوّر قدرة خارقة لا تتعب ولا تستنزف، ولكن يمكن تصوّر الإمكان، وهو إمكان قادر على إرباك الاحتلال واستنزافه والتشويش على مشاريعه الاستراتيجية، وتحقيق نجاحات جزئية في الطريق، وهذا يتطلّب نمطا من التنظيم والتطوير، ما تزال تعيقه السياسات المتبعة في ساحة الصراع الأهمّ، وهي ساحة الضفة الغربية.
التي هي الطريق الصحيحة، في الوقت نفسه، فوحدها توحّد الفلسطينيين،وتلفّهم، وتجمعهم، تماما كما كانت أبدا. وفي هذا الإطار ،ظهر الاندماج الملحمي بين القدس وغزّة، وبينهما فلسطين المحتلة عام 1948، والضفّة الغربية. فالمواجهة وحدها المجدّدة للروح الوطنية، والرافعة لمعنويات الفلسطينيين، والمحطّمة لسياسات الأسرلة والدمج والهندسة الاجتماعية والتفريق القهري ومحو الذاكرة النضالية.
يحيل ذلك إلى السؤال عن تدخّل الـ.ـ.ـمـ.ـقاومـ.ـة المسلحة من قطاع غزّة، وبغض النظر عن كثير من الأطروحات التي تتناول هذه الـمـقاومـة من حيث المبدأ، أو من حيث المقارنة بالــمـقاومـة الشعبية، وهي أطروحات ناقشتها في مقالات عديدة سابقة، طوال السنوات الماضية، فإنّه يمكن القول إنّ هذا التدخّل يهدف إلى تحقيق جملة من المكاسب المعنوية والاستراتيجية، ومن ذلك:
ظلّت الــمـقاومـة المسلحة من غزّة، وحدها التي تقوم بدور التعبئة الوطنية للجماهير في بقية فلسطين، مع سياسات الهندسة الاجتماعية ومآلات مشروع التسوية على الحالة النضالية، ولا سيّما في ساحة الضفّة الغربية،وبذلك دفعت نحو تجديد الروح الكفاية للجماهير في القدس والضفّة بعد أدائها الملحمي في حرب العام 2014، وهذا الرفع المعنوي ،ينبغي المراكمة عليه في خط استراتيجي متّصل قدر الإمكان.
الأصل في سلاح الـ.ـ.ـمـ.ـقاومـ.ـة ،أنّه سلاح فلسطيني، وليس سلاحا جهويّا أو مناطقيّا، والمقاومة في غزّة من جهة ،هي امتداد للإرث الكفاحي للفلسطينيين، ومن جهة مباشرة ،استمرار طبيعي لــمـقاومـة الانــتـفاضـة الأولى، ومراكمة عضوية لـمـقاومـة الانــتـفاضـة الثانية، فهي في الأصل جزء من حالة فلسطينية شاملة، انحصرت في غزّة، بسبب السياسات المتباينة بين الساحات الجغرافية، وسياسات التمييز في الظروف التي يفرضها الاحتلال.
تسعى الــمـقاومـة بتدخّلها لكسر معادلة الاحتلال، التي يحاول بها تقييد سلاح المقاومة بالمنطقة، وتقييده بظروف المنطقة، ثمّ تسعى بعد ذلك لتكريس موضعة نفسها في سياق برنامج تحرّري، لا في سياق وظيفيّ ضيق، وبذلك تتّضح معالم أيّ برنامج تحرري، ينطلق من الظروف المتباينة للفلسطينيين في ساحاتهم الجغرافية المتعددة.
سلاح الـمـقاومـة في غزّة، باستثمار لحظة مواتية، وفي ضوء حسبة سياسية، تستبق الاحتلال بالضربة، ينضم إلى هذا الطريق الصحيح اللاحب، بل إنها المعبّر الأجلى والأبرز عنه، لولا ظروف الحصار التي فرضت على حاضنتها الاجتماعية في غزة. ولعلّ الـمــقاومـة بذلك، كانت بدورها تحاول التأكيد على وجود الخيارات الصحيحة، ولتعزيز هذه الخيارات، ينبغي التأكيد الدائم على الجدّية والجهوزيّة.
*كاتب وباحث فلسطيني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)