مقالات

د. أكرم الخرّوبي… الكبير الذي عاش بصمت ورحل بصمت !

ماجد حسن*
تعرّفت على هذا الرجل لأوّل مرّة،بعد عودتي من صلاة فجر أحد الأيّام، في حزيران(يونيو)عام 1994،عائدا إلى بيتي الذي كنت أسكنه آنذاك، في حي الشرفة في مدينة البيرة ،وبعد تحرّري من سجون الاحتلال،فقبل السجن لم أكن أرى هذا الرجل في المسجد، وعلمت منه أن بيته قريب من بيتي، والذي لا يبعد إلا أمتارا معدودة،وأنه عاد من امريكا قبل عدة أشهر أثناء وجودي في السجن،ثم توطّدت العلاقة بيننا، وزرته في بيته،وزارني في بيتي،فوجدت فيه رجلا يتحلّى بشمائل الأخلاق،ادبا،وكرما،وطيبة،واخوة ،ورقّة،ووعيا،وفهما،ودفئا في المشاعر ورِقّتها !
وفي شهر ايلول( سبتمبر)من العام 1999،تفاجأ الناس باعتقال الدكتور” أكرم ” فهذا الرجلُ، رجلٌ أكاديمي، ويشغل منصب عميد كلية المهن الطبية في جامعة القدس،ولم يعهد عنه الاشتغال بالسياسة ،فلماذا يٌعتقل؟!
مكث الرجل في التحقيق نحو ثلاثة شهور ،تعرّض خلالها لكل أنواع التعذيب الصهيوني النفسي منها ،وغير النفسي!
و لكن المفاجأة الأكبر كانت ،عندما سمع الجميع من الأعلام الصهيوني،أنه قد ألقي القبض على رئيس المكتب الإداري لحركة”حماس” في الضفة الغربية”أكرم الخروبي”،وأن هذا الرجل استطاع خداع أجهزة الأمن الصهيونية ،وعمل في موقعه هذا ،ما يقارب من ثلاث سنوات،دون أن تستطيع أجهزة الأمن الصهيونية معرفة نشاطه ،وحُكِم إثر ذلك حكما جائرا لمدة اثنى عشر عاما، خُفّض بعد ذلك إلى عشرة أعوام.وقدّر لي أن ألتقي الرجل مرّة جديدة في سجن النقب الصحراوي، عام 2005م،وتعرّفت على الرجل أكثر،فجمعتني به خيمة واحدة ،وكان سريره الاعتقالي،أو ما يعرف ب “البرش” بجانب “برشي”،فرأيت من الرجل صفات حميدة وجديدة،لم يكن لي أن أعرفها لولا مزاملة السجن..وجدت فيه الرجل الربّاني الإيماني، فقد كان حريصا على أن يسبق إخوانه إلى قيام الليل،وكان له ورده اليومي مع القرآن وكان حريصا على الذكر..وجدت فيه الرجل المضحّي الحريص على خدمة إخوانه الأصغر منه سنا،وكان في وقتها -على ما أذكر- هو أكبر المعتقلين سنّا في القسم..لم يمنعه سنه ولا مكانته العلمية من المشاركة في الجلي ،وإعداد الطعام، وتنظيف الساحات ،فكان قدوة لإخوانه في كل شيء..وجدت فيه الإنسان الرياضي والمرح ..وجدت فيه الرجل الحريص على خدمة إخوانه وقضاء حوائجهم في جميع جوانب حياتهم،فمن إعطاء الدورات، إلى مساعدتهم في تحصيلهم العلمي، وخصوصا طلاب الجامعات،إلى متابعة أمور طلاب جامعة القدس المعتقلين،من خلال التواصل مع زملائه المدرّسين في الجامعة، لحلّ مشاكلهم المترتّبة على اعتقالهم ،والأنشطة التي كان يقوم بها تطول..لقد وجدت فيه الرجل المحبّ لدعوته، بل العاشق لها ،والحريص دائما على مصلحتها،وقد كان دائم النصح لقادتها …لهذه الصفات ،ولحب إخوانه الجمّ له،اختاره إخوانه في سجن النقب-أكبر المعتقلات الصهيونيّة- أميرًا عاما لهم، فكان نعم الأمير، ونعم القائد،فكان متواضعا لهم ،حانيا عليهم،خدوما لهم،حريصا عليهم،ولا زلت أذكر ،كيف جسّد هذا الرجل الشورى، في أبهى صورها أثناء شغله لموقع الأمير العام في سجن النقب..وعلى سبيل المثال لا الحصر،كان الحديث عن الانتخابات التشريعية ،التي حصلت عام 2006، أثناء إشغاله موقع الأمير العام في السجن،وقد حرص كل الحرص على مشاورة إخوانه جميعا في هذا الأمر،وطاف هو وإخوانه المسؤولين في المعتقل، على جميع أقسام المجاهدين،والتقى بهم، ووضعهم في صورة هذا الانتخابات،وبعد ذلك قام باعداد ورقتي تقدير موقف تعرض على المجاهدين، ورقة تبيّن إيجابيات ومحاسن قبول المشاركة في الانتخابات،وورقة أخرى تبيّن السلبيات المترتّبة على ذلك،وبعدها عمل على إجراء تصويت حول قرار المشاركة من عدمها ،شارك فيه كل المجاهدين في المعتقل،مما جعل المجاهدين يشعرون أن كل واحد منهم ساهم في صنع القرار !
لقد حرص أن يشارك إخوانه في السجن حركتهم ،في قرارتها ومواقفها، وبالذات في مرحلة الانتخابات التشريعية،فعمل مع إخوانه على تهريب” لاب توب” حديث،وكاميرة فيديو حديثة،من خلال الكانتينا،وقد أسهم إسهامات كبيرة في المشاركة في كل جوانب العملية الانتخابية،وفي تذليل كل العقبات الداخلية التي واجهتها،مستثمرا علاقاته مع قيادة الحركة أثناء وجوده في الخارج،فقد كان ضمن المؤسّسين الأوائل للعمل الإسلامي الفلسطيني،على مستوى أمريكا الشمالية،ولا أبالغ إن قلت إن دوره كان الأكثر فعّالية وتأثيرا في هذه العملية.
اما عن برّه باهله وبوالدته على وجه الخصوص، فحدّث ولا حرج. فكم مرة رأيته مصطحبا والدته إلى المسجد،خادما لها ،يفتح لها أبواب السيارة،ثم يأخذ بيدها ،حتى يوصلها إلى باب مصلّى النساء فيه،وعندما أفرج عني في عام 2006 من السجن،وكان لا يزال رابضا فيه ،ذهبت إلى بيته لأزور والدته، وزوجته وإخوانه، والتي تربطهنَّ أيضا علاقة صداقة مع زوجتي، فقد تزاملن وتصادقن أثناء زيارات السجون، فجلست مع والدته، فحدّثتني عن “أكرم” ،وبثّت لي مشاعرها تجاهه،حدّثتني عن برّه بها،وحبه وتدليله لها،وكيف كان حريصا قبل مغادرته إلى عمله،وبعد رجوعه منه،على زيارتها في شقتها الملاصقة لشقته،وعلى تقبيل يديها في كل يوم صباحا ومساء..حدّثتني عن حرصه على إدخال السرور والبهجة عليها، من خلال اصطحابها إلى الرحلات الترفيهية ،حدّثتني عن حرصه على إحضاره لها المأكولات التي تحبّها،وحرصه على أن يطعمها بيديه!
هذا هو “أكرم الخروبي” ،الذي ودّعناه يوم الجمعة2021/3/5، إلى الرفيق الأعلى..ودّعناه إلى ربه ،وقلوبنا قبل أعيننا ،تبكيه حزنا وألما على فراقه!
وداعا يا دكتور “أكرم”.. إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك لمحزونون.

*كاتب فلسطيني

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق