نارت قاخون*
يروى عن علماء العرب قولهم:”الّلحن في الكتاب أقبح منه في الخطاب”.
و”الّلحن” يعني “الخطأ في الّلغة” نحواً كان أم إملاء أم صرفاً أم غير ذلك، وزيادة القبح في الكتاب المكتوب عن الخطاب الملفوظ واضحةٌ علّته؛ فالكتابة تقبل التّصحيح ،ومحو الخطأ والمراجعة ما لا يقبله الحديث الشّفاهيّ الّذي يسمه “الارتجال”.
ويُنقل أنّه قيل لـ”الجاحظ”:”غيّر هذا في كتابك فإنّه قبيح، فقال:”أفعلُ، ولكن كيف لي بما سارت به الرّكبان”؟
وقوله “سارت به الرّكبان” كناية عن الشّيوع والانتشار.
ومن بديع المنقول في مقام الخطأ والتّصحيح،مقالة للقاضي الفاضل عبد الرّحيم البيسانيّ وزير “صلاح الدّين الأيّوبي”،قالها لـ”العماد الأصفهانيّ” وهو يعتذر إليه عن كلام استدركه عليه:
“إنِّي رأيتُ أنَّه لا يكتُبُ إنسانٌ كتاباً في يومِه؛ إلاَّ قال في غَدِهِ: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسنَ، ولو زِيدَ كذا لكان يُستَحسَنُ، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضلَ، ولو تُرِكَ هذا لكان أجملَ. وهذا مِنْ أعظَمِ العِبَرِ، وهو دليلٌ علَى استيلاءِ النَّقصِ علَى جُملةِ البَشَرِ”.
ومن مفارقات الأقدار، أنّ هذه المقالة اُشتهرت وذاعت وعُرفت منسوبة لمن قيلت له “العماد الأصفهانيّ”، لا لمن قالها “القاضي الفاضل”، فستجد المئات ممن ينسبها “للأصفهانيّ”، وستجد منهم من ينسبها لـ”أبي الفرج الأصفهانيّ”، لا لـ”العماد الأصفهانيّ”! وكأنّ قدر هذه المقالة أن تكون شاهداً على “خطأ البشر”، وتكرار الخطأ، بل شيوع الخطأ؛ فـ”الخطأ” أقرب شاهداً، وأصدق وصفاً لسيرة الإنسان.
ومتّى أقرّ الإنسان أنّ سيرته سيرة “الخطأ”، وجب عليه أن يحذر أمراً، ويفعل آخر؛ أمّا ما يجب الحذر منه، فهو أن “يُقعِده” خوف الخطأ، وأن تأسره خشيةُ “الخطأ”، فلا يقول، ولا يكتب، ولا يفعل مخافة أن يُخطئ! فيمسي حبيس أوهام “الكمال” الّتي لا يبلغها بشر.
أمّا ما يجب أن يفعله، فهو مراجعة نفسه، ومحاسبة أقواله وأفعاله، ثمّ تصحيح ما ينبغي تصحيحه، وحينها يخرج من إثم الخطأ بـ”التّوبة”، ويبقى عبء ما قاله “الجاحظ”:”كيف لي بما سارت به الرّكبان”؟!
فأحدنا إذا قال قولاً، أو كتب شيئاً،صار لمن قيلت لهم، ولمن يقرأ المكتوب، وقد يسمع أحدهم خطأك، ويقرأ آخر غلطك، ولكنّه لا يسمع تصحيحك، ولا يقرأ تصويبك، فيظلّ ما كان منك من خطأ شائعاً عنك.
وهذه مسألة – على أهمّيّتها- لا ينبغي أن تُرهق المتحدّث والكاتب أكثر ممّا ينبغي؛ فمصائر الأقوال، وأقدار الكتابات ليست بيد مَن قالها، ولا مَن كتبها، ولـ”خبرة البشر”، و”حكمتهم” و”أحكامهم” آثارٌ كبيرة في سيرة المقالات والأفكار وأصحابها؛ فكم من “عالمٍ”، و”فيلسوف”، و”أديب” يُعرف بأقوالٍ، ويُنسب لآراء تركها، بل نقضها هو نفسه! وكم من قولٍ لأحدهم، يُعرف لغيره، كما في مثال “القاضي الفاضل” و”العماد الأصفهانيّ”.
وفي زمننا هذا، قد تكتب شيئاً في فضاء “مواقع التّواصل”، وهو فضاء “عجيب”، واسعٌ جدّاً، تطير به الرّكبان ولا تسير! وفي الوقت نفسه “ضيّق” قد يُحصر أحدنا في “منشور”، فتجد مَن يُثبّت هذا المنشور على جدار الذّاكرة الرّقميّة بـ”السّكرين شوت”، فيُعاد ويُستعاد على خلاف طبيعة “الذّاكرة التّواصليّة الافتراضيّة” آنيّة الطّبع، ولحظيّة المزاج، حتّى كأنّها بلا ذاكرة!
ولعلّي أجد لنفسي جواب سؤالها في عبارة تقول:”قُل كلمتكَ، وامشِ”، وهي عبارة كان قدرها، وقدر قائلها تحقيقاً لمعناها ودلالتها؛ فهي عبارة نجد من ينسبها لـ”المسيح عليه السّلام”، ومن ينسبها لـ”حكمة الصّين” لا صناعتهم، ومَن ينسبها لـ”سقراط اليونانيّ”، أو لأيّ شخص، حتّى صارت وكأنّها قولٌ بلا قائل! أو قولٌ الكلّ يقوله! وهي على الأرجح -بعد بحث- عبارة للصّحافيّ “كامل مروة” الّذي اُغتيل عام 1966، أي في القرن العشرين!
لذلك أقول كلمتي، وأمشي، وأتمثّل مضمون قولٍ و”مصيرَه”:”الأغبياء وحدهم لا يغيّرون رأيهم”.
وهذه مقولة أغرب في “عجائب السّيرة والمصير” من عبارة “قل كلمتك، وامشِ”؛ فهي تُنسب لحكمة “الأفريقيّن”، و”الإيطاليّين”، و”الفرنسيّين”، و”الإنجيل”، و”أحلام مستغانمي” أيضاً!!!
ولستُ أجد شيئاً من “جوامع الكلم” في هذا المقام كقول روي عن الرّسول الكريم في عددٍ من خطبه:”أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم”، فاستغفرَ اللهَ لنفسه عمّا يُمكن أن يقع فيه المتكلّم من خطأ في قوله، واستغفر اللهَ للمستمع عمّا يُمكن أن يقع فيه من خطأ في فهمه وحفظه ونقله.
*أستاذ جامعي أردني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)