أنس رصرص*
لا شك أن تجارب البشر، وخبراتهم المكتسبة عبر التاريخ، قد أثّرت كثيرا في شكل الدولة الحديثة، وطبيعة نظامها الديمقراطي (تحديدا أكثر من غيره)،وهذا فارق موضوعي كبير، لصالح الدولة الحديثة، جعل إمكانية استمرارها واردا، لا لصالح دولة الراشدين مثلا ،التي نشأت وسط عالَم من ثقافة الاستبداد المعولم : الروماني والفارسي والقبطي وغيره ، ولم يتيسّر لها من تجارب راشدة سابقة لها في الحكم، غير عصر النبوة، الأمر الذي حرمها ما من شأنه أن يراكم خبرتها، ويعزّز رشدها، ويضمن استمرارها لأطول فترة ممكنة،إذ احتذى في ذلك الزمن،من حوّلوا الحكم الراشد، إلى ملك عضوض ،حذو القياصرة والإكاسرة، الذين تأثّروا بِسِيَرِهِم ونمطهم في الحكم (مع الفارق).
أمر آخر في غاية الاهمية، لا يلتفت إليه المحلّلون،هو التركيبة القبلية لمجتمع المسلمين الأوّل والمستمر،لغاية العصور الحديثة،التي أثّرت بصورة مباشرة في نظام الحكم وطبيعته، حين غلّبت في أغلب مراحل تاريخنا وحاضرنا، نوازع القبلية،نوازعَ التقوى والحكمة،حيث ما كانت الصراعات السياسية، وكثير من المذهبية، إلاّ صراعا بين تحالفات القبائل المرجِّحة لهذا الطرف أو ذاك ، بدءا من انتصار معاوية بالقبائل القيسية على الخليفة علي (رضي الله عنه) ،ومن ناصره من القبائل اليمنية.وقد استمر التحزّب القبلي هذا مع العباسيين، وانتقل إلى الآن،واستشرى فيها حتى كان السبب الوحيد دون غيره، الذي قضى على وجود الاندلسيين،وبقيت حروب قيس ويمن، حتى أواخر القرن التاسع عشر ،كشكل من أشكال الصراع السياسي القبلي في المناطق، التي تضعف فيها سلطة الدولة المركزية.
ولئن انتهت حروب قيس ويمن، فلا يزال التنافس قبلياً في بلادنا على كل المستويات، وهو ما تخلّصت منه الدولة الحديثة ،والمدنية الحديثة ومجتمعاتها الصناعية، والتقنية المتطوّرة، منذ الثورة الصناعية ،واستعاضت عنه بما أوجدت من مضامين أخرى،وأطر غير القبيلة، كالأحزاب، والنقابات ،والتجمّعات المهنية ،والمنتديات الثقافية والجمعيات … في كل أوروبا وأمريكا واليابان ،وعدد من دول آسيا وأمريكا اللاتينية تتأطّر فيها ،لذلك يسهل الاحتكام في هذه الدول إلى الدساتير ،والعقد الاجتماعي بين مكوّنات السكّان والطبقات الحاكمة، ويكون العقد الاجتماعي هذا، وشكله الدستور والقضاء لا القبيلة ولا مفاهيمها مرجع الناس عند الاختلاف .
لا زالت القبيلة عندنا، هي الحاكمة، ونحن في القرن 21، إن لم يكن بشكلها التقليدي ،فبمضمونها ومفاهيمها ،وتسلّطها، وتقديسها للفرد المستبد ،وانصياعها له ،دون الدستور الناظم ،والقانون الجامع ، وبتمييزها الناس طبقات وفق معايير القوة والنفوذ، وما الأحزاب الحاكمة ،والجيوش الحاكمة، والتشكيلات ،والطوائف، إلاّ قبائل بمسمّيات عصرية.
*كاتب فلسطيني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)