نارت قوخان*
يرى “باختين” ،أنّ “المهرّج” ،اختراع شعبيّ عبقريّ، يحقّق للشّعوب “الكرنفاليّة”، ويعطيها زخماً في “فولكلورها”،وأهمّ وظائف “المهرّج”،تأتي من “القناعيّة”؛ أي وضع الأقنعة؛ الحقيقيّة والمجازيّة.
و”القِناعيّة”،تعني إخفاء شيء وإظهار آخر، وأكثر ما تجلّى في الإبداع الشّعبيّ، هو إنطاق “المهرّجين” بـ”الحقائق المرّة”، مغطاةً بأقنعة من “البلاهة والغباء والجنون”،تحمي قائليها من “تبعات البوح بالحقائق المرّة”.
وهذا المنظور لوظائف “المهرّج” نجده عند جميع الشعوب، تحت مسمّيات متعدّدة؛ كـ”الحمقى”، و”المغفّلين”،و”المجانين”، و”المجاذيب”.
وأعمق ما في “المهرّجين”و”الحمقى” و”المغفّلين” و”المجانين”،هو أنّها “أقنعة للشّعوب”،مقابل “السّلطة”،الّتي لا يستطيعون مواجهتها، ومواجهة طغيانها – والسّلطة بما هي سلطة تتأسّس على قدر من الطّغيان والاستبداد؛ فما يجعلها سلطة هو قدرتها على الإكراه والإخضاع- ولا يستطيعون الصّمت والسّكوت المطلقين عن معاناتهم من السّلطة في الوقت نفسه، فيحتالون للخروج من هذا المأزق بأقنعة “المهرّجين”: يقولون ما يريدون، ولا يُحاسبون عليه، بدعوى “تهريجهم”، و”حمقهم”، و”جنونهم”.
وأدركت “السّلطة” ذلك منذ زمن بعيد،فقبلت بـ”التّواطؤ” مع هذا “التّهريج”، و”التّسمّح معه”؛ لما يُحقّقه من “تنفيس” عن “الشّعوب”، و”غضبها”،شريطة أن يبقى حبيس “الممارسة الكلاميّة”، و”الكرنفاليّة”،ولا ينتقل إلى “الفعل المجتمعيّ والسّياسيّ”.
ومع تطوّر “الأدب”، و”الإعلام”،ورث “المهرّجين” الأدبُ السّاخرُ، والفنُّ السّاخرُ، في أغلب مقاصده ونتائجه.
ولكنّ “طمع السّلطة” لا حدود له، فانتقلت من التّواطؤ مع “المهرّج الشّعبيّ”،إلى صناعة “المهرِّج السّياسيّ السّلطويّ”؛ لأنّها أدركت بحساسيّة “سلطويّتها” ،أنّ “قناع التّهريج” يحميها من “المحاسبة”، كما كان يحمي “الشّعوب منها”.
لذلك جاء عصر “الرؤساء المهرّجين”،رئيس يُظهر حمقاً وتهريجاً وجنوناً، يكفي لحصر المشكلة في هذا “القناع الظّاهر”،ويُخفي عن النّاس “الحقائق المرّة” ،الّتي يسعى لتنفيذها، ويُرضي “المتأنّقين” حين يتبرّؤون من “حمقه”، بل يسخرون منه.
وقد يبلغ الأمر أن يكون الرئيس “مهرّجاً حقيقيّاً”، بل “مغفّلاً”؛ لأنّ بنية السّلطة، وصراعاتها الظّاهرة، وتحالفاتها الباطنة، قادرة على تنفيذ مرادها مع “الغباء الذّاتيّ” لمن هم في “المناصب”.
وفي العمق ،يختفي “تحالف”، يظهر على صورة “صراع”، يراد منه ضمان “احتكار السّلطة”، وحصريّتها ومركزيّتها في يد “المتحالفين”، مع ضمان عدم “المحاسبة”، بل عدم إدراك المسؤوليّة نفسها.
ما بدأ بفوز “جورج بوش الابن” بالرّئاسة سنة 2000، وسمّاه “مايكل مور” بسياسة “الرّجال البيض الأغبياء”، يمثِّل المراحل الأولى لعصر “التّهريج السّياسيّ”، الّذي يدعمه تحالف “ديمقراطيّ”-“جمهوريّ” لا يُخفيه عنوان كتاب “مور”؛ فـ”الرّجل الأبيض الغبيّ”،الّذي فاز بدور البطولة التّهريجيّة في السّياسيّة الأمريكيّة،سيمهّد الطّريق لوصول “الرّجل الأسود الذّكيّ”! “باراك أوباما”، وهو “ذكيّ وأسود”،أي يصلح ظاهريّاً ليكون “النّقيض” لـ”جورج بوش الابن”،وهكذا فإنّ الخيارات “المنطقيّة”،ستكون “محصورة” في اختيار واحدٍ من هاتين الصّورتين، ولا مجال للتّفكير، أو تخيّل خيارات أخرى!
وفي هذا السّياق، يقول “ديفيد جريبر”:((بدأت السّياسات اليمينيّة المحافظة تبرز رموزاً “بلهاء ومعتوهة”، مثل “جورج بوش الابن”، ثمّ “ترامب”،و”جونسون”، ليستطيع “بائعو الأحلام والرّؤى” من “الّليبراليّين والدّيمقراطيّين” تغطية “تحالفهم العميق والمركزيّ” مع هذا “اليمين” لاحتكار “التّقاسم السّلطويّ المركزيّ”،بممارسة “التّطهّر الزّائف” عبر “السّخرية” من بلاهة تلك الرّموز والقيادات،ومنح أتباع “الّليبراليّين” الشّعور الوحيد الّذي تتقنه:”الشّعور بأنّهم أحسن من غيرهم”!
وهكذا لا يبقى للنّاس، إلاّ أن يسخروا من “بلاهة المحافظين”،فيختاروا “تطهّر الّليبراليّين”، أو أن يغضبوا من “زيف الّليبراليّين”، فيختاروا “صراحة/وقاحة المحافظين”، وتبقى “السّلطة” محتكرة في هذه “الثّنائيّة” محميّة بتحالف عميق وقويّ، أقوى بكثير من أيّ تحالف “ممكن” أو “محتمل” بين فئات تعاني وستعاني من مركزيّة هذه “الثّنائيّة”.))
ومع التّطوّر الهائل في “مواقع التّواصل”،تصير هذه المواقع مسرحاً “كرنفاليّاً كونيّاً”، بل “سيركاً”، تجعل المسافة بين “مظهر السّلطة” و”عمق السّلطة” أوضح؛ فهي مواقع قادرة على ممارسة سلطة تتجاوز سلطة رئيس أمريكا، فتحجب حسابات “ترامب”،فتُظهر سلطةً افتراضيّة تُثير سؤال “مصدرها”، سؤال من الّذي يحكم؟ ومن الّذي يتحكّم؟
إنّها سلطة تنتقل من طور “السّلطة الفيزيائيّة”،إلى “السّلطة المايكروفيزيائيّة”؛ أي سلطة “لا ترى بالعين المجرّدة”،ولا بالمجاهر العاديّة، ومع ذلك، يعيش النّاس جميعاً آثارها، ويمتثلون لشروطها، فتصير “وعاء الوجود” نفسه، فلا “وجود خارجها”، فحظر حسابات “ترامب”،سيدفع حسابات ملايين تؤيّده إلى الظّهور الجليّ في هذا الوعاء الوجوديّ “الافتراضيّ”، فرقم 70 مليون شخص، ليس له حضور حقيقيّ إلا بقدر حضوره في هذا “الوعاء الوجوديّ”،وهكذا يصير “حجب ترامب” إظهاراً لـ”التّرامبيّة” نفسها؛ فـ”ترامب” بما يمثّله من “كرنفاليّة قناعيّة”، و”تهريجيّة سيركيّة” يوفّر لـ”الرّأسماليّة” ومكوّناتها البنيويّة، أن تفكّك أيّ “سرديّة”، يظنّ كثيرون ضرورتها لـ”الرّأسماليّة”، حتى “السّرديّة الأمريكيّة” نفسها.
تنتقل السّياسة من فضاء “الكرنفال” الّذي يكون في “الطّرقات”، إلى فضاء “السّيرك الافتراضيّ”، الّذي لا يكون إلا في “الخيمة”، وداخلها. فالمظاهرات والعنف وغيرها لا يكون لها وجود وأثر إلا بقدر “ترنديّتها” في “السّيرك التّواصليّ الكبير جدّاً”، و”الصغير الضّيّق جدّاً” في الآن نفسه.
*أستاذ جامعي أردني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)