مقالات

‏الرواتب الفلكية في الأردن : على حساب من ؟!

حسين الرواشدة*

ذكّرتني أخبار وتسريبات الرواتب الفلكية، التي يتقاضاها بعض الموظّفين المحظوظين في مؤسساتنا العامة الإردنية(آخرها، تعيين ابن رئيس وزراء سابق مؤخّرا )، بتصريح أحد المسؤولين،الذين فتح الله عليهم،حين قال :”يوجد لدينا فساد، لكن لا يوجد لدينا فاسدون”…آنذاك، اخذنا كلام الرجل على محمل السخرية والتندّر، لنكتشف لاحقا أنه صحيح، ذلك أن مصنّفات الفساد في بلادنا ( وما أكثرها ! )، ليست كلّها خارج القانون، فبعضها «مقونن» ومحميّ بالتشريعات،وبعضها «مسكوت عنه»،ولا يوجد في القوانين ما يحرّمه (يجرّمه :أدق)، أو يمنعه.
ملف الرواتب الخيالية، جزء من هذا الصنف الاخير للفساد، فبمقدور أي مسؤول في أية مؤسّسة عامة ،أو هيئة مستقلة ( مستقلة عن من..؟)،أن يعيّن من يشاء من الأشخاص (غالبا ما يكونوا من أبناء ليلة القدر)بعقود سنوية، مقابل رواتب ذات سقوف عالية،تعادل أحيانا عشرات أضعاف ما يتقاضاه الموظّفون المنتظمون في «سيستم» الرواتب بالدولة، حتى لو كانوا وزراء، ليس لاعتبارات تتعلّق بالخبرة والكفاءة والندرة وغيرها من معايير التوظيف، التي تعلّمناها في الإدارة، وإنّما من أجل «التنفيع» ،وجبر المصالح فقط.
خطر هذا الذي يحدث، لا يتعلّق فقط بالاعتداء على المال العام، أو التصرّف فيه بلا وجه حق، ولا أيضا ببروز طبقة من المنتفعين والمحظوظين،على حساب غيرهم من عباد الله الموظفين،الذين يخضعون لسلّم الرواتب المتواضعة المقرّرة في القوانين والأنظمة،ولا يتعلّق ثالثا بما يترتّب على هذه التفرقة غير المشروعة،من غياب للعدالة،وإشاعة لظواهر الفساد، وإفساد الضمائر، بدفع بعض الموظفين إلى التعدّي على المال العام ،لمجرد أن غيرهم سبقوهم إليه بالقانون، أو للانتقام من الوضع القائم.
الأخطر من ذلك، أن هذا الفساد المغطّى بالقانون، أسّس لحالة اجتماعية (لها تداعياتها السياسية والاقتصادية)، أفرزت من الناس في مجتمعنا، أسوأ ما فيهم من كراهية وأحقاد متبادلة، وانعدام ثقتهم ببعضهم بعضا، أو ثقتهم بالدولة ومؤسّساتها،كما أنه عزّز لديهم فكرة إقصاء قيم: النظافة والاستقامة والقناعة والرضى، والإخلاص للعمل،والانتماء للبلد والمؤسسة، خاصة حين داهمتهم وقائع ومقارنات بين ما هم عليه من «أحوال»، وما حصل عليه غيرهم من «أموال» وامتيازات،ليس لأنهم أفضل منهم، وإنّما لأنهم انضموا لطبقة الشطّار والانتهازيين ،ووجدوا من يساندهم، لاقتناص الفرصة بأقل ما يمكن، ( أو حتى بدون) أي جهد أو كفاءة.
لدي، وربّما لدى القراء الاعزاء، عشرات الحالات،لموظفين حازوا على عقود برواتب عالية، سواء في «منتجعات» رسمية أو هيئات عمومية( دعك الآن من الشركات المساهمة العامة)،استنادا إلى «مساطر» الواسطة والمحسوبية والشللية،حدث ذلك وسيتكرّر إذا لم تتحرّك الحكومة لوقف هذه «المهزلة»،من خلال وضع قانون وأنظمة تحدّد سقوف الرواتب ومعاييرها، وقبل ذلك أسس وشروط التعيين ،وشراء الخدمات ،وإبرام العقود ،وصرف العلاوات والمكافآت، وتوزيع الامتيازات، وكل ذلك على قاعدة ثابتة من الشفافية والعدالة، وتحت الرقابة والمساءلة والمحاسبة أيضا.
السؤال : هل ستتحرّك حكومة الخصاونة لفتح هذا الملف ومعالجته، أم اننا سنظلّ نطلق الصرخات في الفضاء، ونشتم الفاسدين دون أن نحاسبهم، ثم نتفرّج على شبابنا، الذين أدركهم الإحباط واليأس، وهم يبحثون عن قنوات أخرى غير مشروعة، توصلهم لفرصة عمل براتب مجز، أو فرصة هجرة بلا عودة، أو فرصة انتقام من أنفسهم، ومن مجتمعهم أيضا.

كاتب أردني*

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق