د . وليد سعيد الحاج*
بعد امتناعي عن المشاركة مع شخصية “إسرائيلية” في برنامج تلفزيوني، وصلتني أسئلة من كثيرين حول الأمر، خصوصاً استخدامي صيغة “وسيلة إعلام ناطقة باللغة العربية” ،في معرض انسحابي من الحلقة. وقد وعدتُ بعض الأصدقاء بتفصيل وجهة نظري في الأمر.
ما أنا مقتنع به، أن الأمر يختلف بحسب وسيلة الإعلام، ليس خلفيتها أو جنسيتها، وإنما شريحتها المستهدفة. وهنا أقسّم وسائل الإعلام لثلاث مجموعات أساسية:
الأولى، وسائل الإعلام العربية والناطقة باللغة العربية، أي التي تستهدف المتلقي العربي، وهذه الموقف معها يفترض أن يكون حاسماً بالمقاطعة الكاملة لأي مشاركة مع شخصية صهيونية، لأن الأصل أنها هي أيضاً مقاطعة. فالمشاركة هنا تطبيع إعلامي، ومنح مشروعية للـ”ضيف الإسرائيلي”، وتعامل معه بندية وتناظر، ورضا ضمني باستضافة وسيلة الإعلام له، وهذه كلها أخطاء ينبغي تجنّبها.
وتستوي هنا عندي وسائل الإعلام العربية أو تلك التابعة لمؤسسات دولية ،ولكنها ناطقة بالعربية (مثل الحرّة وروسيا اليوم وبي بي سي عربي..الخ)، لأن من أهم أهداف التطبيع الإعلامي، كسر الحاجز النفسي والمعنوي بين الصهاينة وبين المتلقّي العربي، وإتاحة الفرصة له لتقديم سرديته له، وتمرير رسائله المباشرة والضمنية، فضلاً عن أهداف أخرى أكثر تعقيداً وخطورة.
وفي هذه الحالة ،لا يعدّ الانسحاب هروباً ولا ضعفاً، ولا حتى إخلاءً للساحة له، إذ هي ليست ساحته، ولا ينبغي لنا التسليم باستضافة بعض وسائل الإعلام لهذه الشخصيات، بل علينا أن نبقى نواجه ذلك ، ونضغط عليها لتكفّ عن الاستضافة، فضلاً عن أن الرأي العام العربي ،ليس مساحة معركة وتنافس مع العدو الصهيوني، بل يفترض أنها ساحة محصّنة إلى حد ما ضد “البروباغندا” الصهيونية. ولذا، فالانسحاب هنا ليس خسارة، الخسارة هي المشاركة.
إن هدف الصهاينة الأساس، ليس الإفحام ولا التفنيد ولا الإقناع، وإنما المشاركة. ويكونون في غاية السعادة حين يشاركون حتى ولو شُتموا وهوجموا و”أفحِموا”، فمعركتهم هي كسر الحاجز والمشاركة ومخاطبة المتلقّي العربي، وليس بالضرورة الانتصار في المقابلة. وهنا، المشارك مع شخصية صهيونية على هذه الأرضية،خاسر ولو “ظنَّ” أنه كسب النزال خلال الحلقة.
الثانية، وسائل الإعلام الأجنبية، الأمريكية والأوروبية وأشباهها.فهنا ليس هناك مظنّة تطبيع لدى المتلقّي الذي يتعامل – في معظمه – مع الكيان الصهيوني ،على أنه دولة عادية قائمة، وكذلك تفعل هذه الدول ووسائل إعلامها، بل إن بعضها قد يكون منحازاً للجانب الصهيوني. هنا، لا أرى بأساً في المشاركة، بل أراها واجباً لمن امتلك أدواتها، من لغة ومعلومات ،وخبرة بالشريحة المستهدفة، وكيفية التأثير بها، فضلاً عن مهارات الحضور الإعلامي المختلفة،لأن المشاركة الضعيفة مكسب للطرف الصهيوني وروايته ،وإضعاف لنا ولروايتنا. وبالتالي لا ينبغي أن يقتحم هذا المجال إلا من يمتلك مفاتيح النجاح فيه.
الثالثة، وسائل إعلام دول مسلمة أو صديقة لديها علاقات – للأسف – مع الكيان الصهيوني، وبعض وسائل إعلامها قد يستضيف شخصيات صهيونية أحياناً،لكن ليس على قاعدة الانحياز لهم وتبننّي روايتهم. ولعلّ تركيا هنا مثال جيد، على عكس الحالتين السابقتين، أرى الموقف هنا معقّدا ويقدّر بقدره في كل مرة، حسب وسيلة الإعلام وخلفيتها والموضوع والسياق والشخصية المستضافة،وما إلى ذلك.
وقد أميل لفكرة المشاركة هنا، لأننا لا نملك تماماً إمكانية تغيير رأي وسائل الإعلام هذه، ومن جهة أخرى ،سيكون خطيراً جداً ترك الساحة لهم بالكامل.
وهنا، تصبح مفاتيح الحضور الإعلامي في غاية الأهمية، إذ لا يصح أن يشارك في هذه اللقاءات أيٌّ كان، فهي معركة حقيقية على الرأي العام في هذه الدولة، ولا ينبغي أن يتصدّى لها إلا المقتدر على هذه المعركة الخاصة، من لغة ومعرفة دقيقة بالبلد وشرائحه المجتمعية ونظرته للقضية الفلسطينية والكيان الصهيوني، وطريقة تفكيره، وسبل إقناعه، ومفاتيح التأثير عليه، وتاريخ العلاقات بين هذا البلد ودولة الاحتلال، فضلاً عن أدوات الحضور الإعلامي الأخرى المعروفة.
وإضافة لكل ذلك، لا بد من التعبير علناً عن أن المشاركة، كانت اضطراراً لعدم ترك الساحة شاغرة، وحث وسيلة الإعلام على الامتناع عن هذه الاستضافات مستقبلاً، وهذه رسالة ينبغي أن تصل لوسيلة الإعلام ومتابعيها.
طبعاً،هناك مجموعة رابعة، وهي الإعلام الصهيوني،لكنني أراها خارج إطار التقييم أصلاً، ويفترض أن يكون الموقف منها معروفاً وواضحاً ،وهو المقاطعة التامة. هنا، فكرة إمكانية التأثير شبه مستحيلة أصلاً. فالعدو بنفسه (وسيلة إعلامه)،هو من يختار التوقيت والموضوع والسياق وأرضية النقاش والمحاور والأسئلة والمقدمة والتقارير المختلفة، وسيجتمع هنا المقدّم مع باقي الضيوف لخدمة الرواية “الإسرائيلية”، فماذا يبقى من مساحات التأثير؟
لا يعني ذلك الزهد في محاولة التأثير في الجبهة “الإسرائيلية” الداخلية،لكن هذه لا يقوم بها أفراد بشكل عشوائي في وسائل إعلام “إسرائيلية” ،هي المتحكّمة في كل شيء تقريباً كما سلف، وإنما قد تقوم بها دولة أو المقاومة من خلال اختيار الموضوع والتوقيع والشكل والمضمون والاسلوب الأجدى ،لأن تخدم هدف التأثير بدون أضرار أو مخاطر مباشرة.
فضلاً عن أن دخول هذا المجال، من قبل بعض من يظنّون أنفسهم قادرين على إيصال رسالة من دون ضرر – وأنا أشكك جداً في ذلك – ،سيفتح الباب لغيرهم، ممن لا يمتلكون بالضرورة هذه القدرة، وهكذا نكون فتحنا للعدو نافذة إضافية لغزونا ،فيما يفترض أن نغلق النوافذ المفتوحة له في وسائل إعلامنا.
هذه وجهة نظري التي أتبنّها، وأرجو أن تكون موضع نقاش وحوار، مع من يختلف معها أو مع بعض ما فيها، سعياً للوصول للأفصل والأمثل.
*كاتب فلسطيني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)