نارت قوخان*
يرى كثير من دارسي الّلغة قديماً وحديثاً ،أنّ مقصد الكلام البشريّ ،هو “الحقيقة المطابقة للواقع”، وأنّ “المجاز والاستعارات” ،استثناء في استعمال أهل الّلسان؛ لذلك يحلّلون الاستعارات، ويؤولون المجازات، لإدراك المقاصد الحقيقيّة وراءها.
ولكنّهم حين يفعلون ذلك ،يُدركون أنّ تلك المقاصد لا تقيم في “الظّاهر من الكلام”، فأدركوا أنّه لا تكون “المجازات والاستعارات” ،إلا لأغراض “بلاغيّة”، لا “إخباريّة تحليليّة”.
في مقابل من يرى أنّ مقصد الكلام البشريّ هو “الحقيقة المطابقة للواقع”، فهناك من يرى – وأنا أميل لهذا- أنّ جُلّ، بل كلّ مقاصد الكلام البشريّ استعاريّة ومجازيّة؛ فالّلسان بما هو “لسان” نظام “رمزيّ” لا يُحيل إلى الواقع الحقيقيّ، أو أيّ نوعٍ من الواقع مباشرة، ولو كانت العلاقة مباشرة وسببيّة بين الكلام والواقع ،لاتّفقت ألسنة البشر جميعاً، أو كادت، ولكنّ العلاقة بين كلامنا والواقع “اعتباطيّة” لا “سببيّة”؛ لذلك تفتقر إلى “مرجع فوق الكلام والواقع”،يفسّر تلك العلاقة.
ومن علامات الصّحّة الّلسانيّة بين أبناء مستعملي أيّ لسان إدراك الأبعاد الاستعاريّة والمجازيّة، والمقاصد البلاغيّة في كلامهم؛ لذلك أرى انتشار “فرك الاستعارات”، و”تفتيت المجازات” سخرية منها، أو إنكاراً لها، وعلى مستعمليها علامات “أمراض لسانيّة”، تدلّ على أمراض إدراكيّة، و”نفسيّة”، و”اجتماعيّة”.
فحين يقول أحدنا معزّياً:”خاتمة الأحزان”، فإنّ مقصد الاستعمال الاستعاريّ والمجازيّ هو “الدّعاء”، بل “التّمنّي” لشيء لا يلزم تحقّقه في الواقع بالضّرورة، فلو جاء أحدهم من أهل “الفرك” و”التّفتيت”،فسخر من هذا القول ،أو أنكره بحجّة أنّ التّحقّق الوحيد في الواقع لهذه العبارة أن يكون قائلها أو المقول لهم أوّل المتوفين والرّاحلين،حتى لا يشهدوا حزناً جديداً، بعد أن “خُتمت الأحزان”! فإنّه بسخريته وإنكاره يسخر من واحدة من أهمّ مقاصد الّلسان الإنسانيّ، وهو “التّوسّع”، و”التّحرّر من قيد الواقع القاسي في قيوده”، وليس تغافلاً عنها وتجاهلاً لها.
وحين يقول أحدنا:”الله يرحمه”، أو “ما تشوف شرّ”، أو “كلّ عامٍ وأنت بخير”، أو “عيد سعيد”، أو “عيد مبارك”، أو “ميلاد مجيد”، أو أيّ عبارة من عبارات “التّهنئة والدّعاء الاجتماعيّ”، فإنّها من مظاهر التّوسّع الّلسانيّ، والتآلف الاجتماعيّ المجازيّ والاستعاريّ، الّتي لا يُراد منها إخبارٌ عن الواقع وحقيقته، أو إظهار المواقف الفلسفيّة و”الدّينيّة” و”السّياسيّة”؛ لأنّ هذه العبارات كلّها لا تُحيل إلى واقع موجود بالضّرورة، بل لا تُحيل إلى واقعٍ يُمكن التّحقّق من وجوده أصلاً؛ فأن يرحم الله فلاناً، أو لا يرحمه، ليس مرتبطاً بقول أيّ واحدٍ منّا، أو بعدم قوله، وهذا معتقد راسخ عند المؤمنين بالله، ولكنّه غائب ومغيّب في حياتهم، حين يُصاب البشر بأمراض “الحساسيّة المفرطة”، و”الصّراع على الله احتكاراً”! وإحلال البشر أنفسهم محلّ “الله” نفسه!
والدّعاء بالخير والسّعادة، والسّلامة العامّة والدّائمة “دعاء” و”رجاء”، بل هو “تمنٍّ”، نعلم من واقع الحياة أنّ الحياة لا يمكن أن تخلو من نقيض الخير والسّلامة والسّعادة، فالّذي يقولها لا يُنكر الواقع، ولا يعيش في “رومانسيّة” الفردوس الأرضيّ المفقود، أو “المستحيل”!
كما أنّ قول القائل، تحيّة للآخرين “السّلام عليكم”، لا يعني أنّه “مسلمٌ متديّنٌ” يعلن موقفاً دينيّاً لنفسه، ومن الآخرين، بل هي تحيّة أعراف مجتمعٍ يُدرك توسّع الكلام في مقاصده عن “حدود ألفاظه”، ومنظور “المفرّكين والمفتّتين”، ومن علامات الصّحّة الّلسانيّة والنّفسيّة، أن تجد هذه العبارات فضاءات اتّساع للجميع ،دون أن نقف لها بمرصاد التّحليل” الّذي يُثقلها بما لا تحمله، فيكون هذا الإثقال، دليلاً على “ثقل أنفسنا”، و”الأثقال الإدراكيّة والمجتمعيّة” ،الّتي تكاد أن تطمر “أرواحنا”!
فليس قول “صباح الخير”،دليل “علمنة وإلحاد” ،و”قلّة تديّن! ولا قول “رحمه الله”،دليل موقف فلسفيّ ودينيّ وطائفيّ وسياسيّ، يُحتاج معها إلى صراع عليها، أو بحثٍ عن بدائل تبدو أقلّ دينيّة كعبارة “لروحه الرّحمة”، أو R.I.P!!
لقد ضيّقنا “ألسنتنا”، ليس لأنّها ضيّقة، بل لأنّ “نفوسنا ضيّقة”، وحاربنا المجازات والاستعارات والتّوسّعات وحاصرناها، لنحارب مجازات النّفس ،واستعارات إنسانيّتنا وانتماءاتنا المجتمعيّة والدّينيّة والسّياسيّة في توسّع تقبلّها، واعترافها بأنّنا مختلفون، ويُمكن لنا أن نعيش معاً، دون تكلّف “التعايش الصّناعيّ الكاذب”! ومن غير أن يلزم من العيش، أن ننكر اختلافنا وتنوّعنا وتعدّدنا، أو نتنكّر له!
فحين يقول أهل دين لأهل دين آخر في مناسبة خاصّة بدينهم:”كلّ عام وأنتم بخير”، فإنّهم لا يعلنون عن إيمانٍ بدين هؤلاء، أو انتقال من دين إلى دين!
وحين يقول أحدهم لآخرين؛ ذكوراً وإناثاً:”يا حبيبي، يا حبيبتي” في سياق الاستعمال اليوميّ، وتوسّعاته، فإنّه لا يعلن “العشق الممنوع”، أو “العشق المكتوم”!!
هي عبارات توسّع ومجاز واستعارة لا تضيق إلا حين تضيق “النّفوس”، و”النّفوس في زماننا” ضيّقة وتضيق أكثر فأكثر!!
أستاذ جامعي أردني*
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)