مقالات

فايروس العلمانية الخفي

د. رأفت المصري*

مما لفت نظري ويلفته منذ وقت:
إصابة الكثير من أبناء التيار الإسلامي عموما بفايروس العلمانية الخفي؛ الذي تظهر أعراضه في مناسبات متفرقة؛ وتبدو من خلال تعليقات أو مقالات ينقدون من خلالها ما يسمونه:
أدلجة القرارات السياسية للحركة الإسلامية، أو تسييس الخطاب الديني لها، أو حتى مشاركتها السياسية في صورة من صورها!
بالعودة إلى الأصل الفكري ،الذي تأسّست عليه الحركة الإسلامية، وجب أن نستحضر أن:
من الأسس التي فهمنا الإسلام بناء عليها: أنه دين لا تقتصر مساحته الحركية على الشعائر المحضة، وإنّما تتعدّى لتصل إلى جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة.
فهمنا ذلك من صريح كتاب الله وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومن سيرته الشريفة ،وسيرة أصحابه وعمل الأمة من بعد.
واختلفنا في ذلك مع أولئك الذين أرادوا الإسلام سجيناً في محاريب المساجد، مقصور المظاهر على أداء العبادات الشعائرية!
وأفرز الاختلاف من ثم: “إسلاميين وعلمانيين”:

– إسلاميين آمنوا بالإسلام دستورا ومنهاج حياة.

– وعلمانيين أرادوا محاصرة الفكرة الإسلامية في العلاقة الخاصة بين العبد وربه؛ لا ينزل بها إلى ميدان الحياة.
وامتازت الصفوف بناء على ذلك، وانفجرت الصحوة الإسلامية في العالم متأثّرة بفلاسفتها الكبار؛ أمثال سيد قطب والمودودي ومالك بن نبي وغيرهم،من بناة الفكر الإسلامي ومنظّريه.
ثم الحالة الفكرية المجتمعية ليست حالة ثابتة؛ بل هي حالة متماوجة شديدة التأثر ،غزيرة الحراك، خصوصا في ظل العولمة والانفتاح الفكري الكبير ،نتيجة النقلة النوعية في الاتصالات.
وصار الفكر الغربي بما أوتيه من أدوات يتسلّل إلى العالم العربي والإسلامي من حيث نشعر ومن حيث لا نشعر ! و”تأمركت” الكثير من مظاهر حياتنا الخاصة والعامة؛ حتى أذواقنا في الطعام والشراب واللباس والمسكن؛ فضلا عن مناهج التعليم والسياسة؛ “تأمركت”!
واستمرت الفكرة الغربية الغازية بالتمدّد داخل العقل العربي والمسلم،حتى تسلّلت منها عصارات فاسدة إلى الكتلة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي؛ التي تأثّرت هي الأخرى بالمد العلماني العالمي؛ خصوصا في زهرة أيامه وأشدها بريقاً وأعظمها صولة!
ونشأت ناشئة في هذه الكتلة ،لا هي إسلامية تصدر في فكرها وحركتها عن الإسلام، ولا هي ليبرالية تنبتُّ عن الإسلام ،وتعلن علمانيتها، بل يمكن أن توصف بأنها نصف إسلامية أو نصف ليبرالية!
تعتنق الإسلام كفكرة تعبّدية وعلاقة روحية وعنوان حضارة؛ لا مضامين محددة فيها!
وتعتنق الليبرالية كنظرة عامة إلى منهج الحكم والعمل السياسي!
تجدون تناقضاً في ذلك؟

والله إنه لتناقض ناشئ عن عدم فهم الإسلام،أو التنكّر للفهم الشمولي له ،تحت ضغط الواقع العلماني، وطَرْق القوى الغربية بأدواتها في ظل العاصفة المادية الرأسمالية وأسطولها المخيف!
أغلب هؤلاء الإخوة المتأثّرين من أبناء التيار الإسلامي،أو ممن كانوا أبناءه ،وأحد الناشطين في صفوفه؛ أصيبوا بفايروس علماني؛ صاروا بعد إصابتهم ،به ينسلُّون من الفكرة الأساسية المتعلّقة بحركية الإسلام وشموليته، وصاروا ينظرون إلى السلوك السياسي للحركة الإسلامية ،على أنه سلوك “كاذب” يستغل الدين،لتحقيق مكاسب سياسية ! ويستنكرون من ثم كل إدلاء سياسي، ينبع من “العقيدة الإسلامية”.
أحدث مظاهره:
استنكار الفتوى الصادرة من دائرة الإفتاء الأردنية، باعتبار من انتخب مرشحاً (في انتخابات مجلس النواب) ،يرى أنه ليس كفؤا ولا أمينا: خائنا لله ولرسوله!
ورأى بعض مَن نَصِفُهم،أنه لا داعي لاستحضار الفتوى في مثل هذا المسألة السياسية، وصرح آخرون بأن مثل هذا المحل، ليس بالمحل الذي تستحضر فيه الفتاوى الشرعية.
ونقد آخرون الخطابات الإيدلوجية لبعض المرشحين، وتعجّبوا من اعتبار التصويت للفاسدين: حراما شرعا!
إن كل هذا وغيره ،مظاهر واضحة للإصابة بالفايروس؛ علم صاحبه أو لم يعلم!
وهو يستلزم إعادة ضبط البوصلة وقراءة الإسلام قراءة سليمة، تصدر عن النظر العميق للقرآن وللسيرة، وذلك بعد التنبّه بالحد الأدنى،إلى الإصابة بالمرض ،والشعور بوجوب المعالجة والاستدراك.
هذا الذي سمح به المقام، ولعلّ الإشارة وقدح الشرارة، تزيل الغشاوة عن عيون المخلصين.

*باحث إسلامي أردني

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق