مقالات

بين الخلافة الراشدة ..والحكم الرشيد !!

زهير سالم*

أوّلا، أود أن أبيّن أنني مع مشروع وطني عربي إسلامي ،لإقامة الحكم الرشيد. في كل الأطر المتاحة على السواء .وأرى أن عنوان “الخلافة الراشدة “، عنوانا لمرحلة تاريخية، وهو حين يطرح اليوم ،فإنما يطرح بدلالته الرمزية،وليس بدلالته التاريخية، بأبعادها الزمنية والشكلية .
وأن مصطلح خليفة رسول الله، عندما أطلق على سيدنا أبي بكر ،كان مصطلحا توافقيا بين المسلمين ، بمعنى أنه من خلف رسول الله صلى الله ،وليس مسمّى شرعيا يلتزم به المسلمون.
ولقد كان نظام الخلافة بمصطلحاته وآلياته نظاما زمنيا، يستفيد من آليات العصر ، ويتجاوب مع معطياته ،ويستلهم روحية الإسلام عقائده وشعائره وشرائعه.وقد اختلف حظوظ الخلفاء وعهودهم في الإصابة من هذا الخير ،والحرص عليه،والاستفادة منه،ومثّلت مرحلة الخلافة الراشدة، المرحلة الإسلامية النموذجية، لرشد الحاكم ورشد المشروع.
يعتقد بعض الناس،وبطريقة ممعنة في التلقائية والتبسيط،أن سيدنا معاوية رضي الله عنه،هو من أسقط نظام الخلافة الراشدة بتعيينه ابنه يزيد وليا للعهد، وتحويل الخلافة من شورى بين المسلمين إلى ملك عضوض،وفي هذا تبسيط مخلّ شديد لقراءة سير أحداث التاريخ .
حبنا للخلافة الراشدة ،وللخلفاء القائمين عليها،رضي الله عنهم، يجعلنا نتوقّف عن التأمّل في كثير من المجريات والتفاصيل.
أليس من حقنا أن نسأل اليوم : كيف تم اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، دون أن يتنبّه القائمون على الحكم الرشيد، إلى ضرورة حماية الخليفة شخصه وقراره .؟!
وردت عن سيدنا عمر رضي الله عنه ،إشارات في تخوّفه من تغير التركيبة السكانية لمجتمع المدينة المنورة ،نتيجة ما انصب في المجتمع من وافدين جدد. تغيّر مجتمعي ،كان يقتضي تغيّرا أمنيا ، على مستوى حماية شخص الخليفة ،وبيت الخليفة، ومحراب الخليفة ، وكان من الغفلة التقصير في كل ذلك.
تروقنا حكاية رسول كسرى إذ رأى عمرا ..بين الرعية عطلا وهو راعيها ، ولكننا لم نأخذ من مقتل عمر عبرة لنحمي عثمان، رضي الله عن عمر وعن عثمان .
نجاح الاختراق الأمني،باغتيال سيدنا عمر رضي الله عنه،كان خرقا واضحا في بنية الدولة الراشدة ، ثم كان فقد عمر رضي الله عنه،وهو في أوج عطائه خرقا آخر ..أليس علينا أن نقرأ التاريخ للاعتبار !!
ثم كان تحرّك الغوغاء والدهماء،ومن لا خلاق لهم من مصر والعراق، إلى دار الهجرة خرقا آخر ، كيف تحرّكت هذه الجموع في أرض الخلافة ، والمسؤولون عن ” الأمن العام ” نائمون ..!!
ثم كيف حاصر هؤلاء الغوغاء بيت الخليفة،وحرموه من الطعام والشراب لأيام طوال، والصحابة من حوله متوافرون ؟ وحين أقرأ ما يتستّر به بعض المؤرّخين، يأخذني العجب العجاب…ووقف سيدنا عثمان يذكّر محاصريه كيف يمنعونه من شربة ماء من بئر، هو الذي وقفه لسقيا المسلمين !!
ويكتب إلى سيدنا علي : فإن كنتُ مأكولا فكن خير آكل …وكان مقتل سيدنا عثمان ، رضي الله عن ذي النورين ، خرقا أكبر في بنيان دولة الخلافة وفي حقيقة رشدها.وكانت الضربة الثالثة والأقوى قبول سيدنا علي رضي الله عنه بيعة القتلة والمجرمين، حتى غلبوه على أمره ، فكان يقول عندما يطالب بالقصاص منهم:يملكوننا ولا نملكهم . ألا تعجبون !!
وجاء انشقاق سيدنا الزبير، وسيدنا طلحة،وأمّنا عائشة،عن سيدنا علي رضي الله عنهم جميعا ، خرقا إضافيا في بنية نظام الرشد،انشقاق كانت له سياقاته ، وأسبابه،وتداعياته، وثمراته المرّة، وبغض النظر عن المخطئ والمصيب في هذا ، فقد كان سببا في إدخال الوهن على نظام الخلافة الراشدة، وخلخلة قواعده ،التي قامت على قيم البر والطاعة بالمعروف .
يعتقد البعض أن سيدنا معاوية رضي الله عنه، كان أول من أدخل نظام الملك العضوض، بتوريثه الأمر لابنه يزيد ، وينسون في سياق التاريخ، سبق المبايعين للإمام علي إلى بيعة سيدنا ” الحسن ” وريثا لأبيه !!وكانت تلك السابقة الأولى على هذا الطريق، والتي يقفز عنها المؤرّخون، وهي سابقة له دلالتها ،ولها حضورها في متتالية صنع الموقف السياسي في عهد سيدنا معاوية.
جميل جدا أن نتمسّك بروحية الخلافة الراشدة، التي أكثر ما ميّزها بُعْد الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم جميعا عن الفساد بكل صوره وأشكاله،وحرصهم على العدل المطلق ،بين مكوّنات مجتمع كان لا يزال قيد التشكل،باستقبال الكثير من الوافدات البشرية والنظمية والثقافية،وبين عهد الراشدين رضي الله عنهم، وعهد الأمويين من معاوية إلى بني مروان،كانت ملامح الدولة قد تشكّلت،واستقرت على قواعدها ، وأخذت ملامحها التي عرفنا .
لا يجوز لأهل الإسلام في هذا الزمن ،أن يستمروا في تقديم النمادج التاريخية ،على أنها صور صالحة للاستنساخ ،والاقتداء بالعزف على أوتار العاطفة لدى الجماهير ..
تمسّكنا بروحية الخلافة الراشدة ،لا يستدعي تمسّكنا بشكلها وآلياتها، سواء على مستوى اختيار الحاكم،أو على مستوى صنع القرار .
كان جميلا أن سيدنا محمد رسول الله، ومن بعده أبوبكر وعمر وعثمان وعلي،أداروا الدولة من محراب مسجد ،ولكن لن يكون هذا ممكنا أو مقبولا اليوم ..
لا أدافع عن خطوة سيدنا معاوية في توريثه الحكم لولده يزيد، ولكنها كانت خطوة في سياق، ويجب علينا دائما أن نتنبه للسياقات ..
وسننتقل بأجيالنا خطوة مهمة،حين ننتقل بتصوراتهم من الحلم بالصيغ التاريخية الوقتية إلى المطالبة بالحكم الرشيد،الذي ينتمي لعصرنا، ويستوفي كل ما كان في عطاءات حضارتنا وشريعتنا،ومن خير ورشد.

* كاتب وباحث سوري

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق