بقلم : د. عبادة العلي
جاءت مشاركة حزب جبهة العمل الإسلامي ،في انتخابات المجلس التاسع عشر ،بعد مخاض عسير، داخليا في الحزب والجماعة، وأردنيا بعد موجات من ضغوطات على جسم الجماعة، وعلى أجسام أخرى، مثل نقابة المعلمين ،بعد محاولة ربطها بالجماعة، لتسهيل عزلها مجتمعيا، ومن ثم ضربها.
كل ما سبق ،جعل من الذهاب للانتخابات عملية عسيرة، لم تكن تحصيل حاصل، وإن كان الكثيرون درجوا على قراءته ضمن هذا السياق، فقد كان وراء الأكمة ما وراءها ،من خلاف حاد بين مراكز قوى داخل الجماعة والحزب، أبرز ملامحها للمفارقة ،أن تيارا داخل الجماعة كان باتجاه المشاركة ،على الرغم من كل ما تعرّضت له الجماعة من ضغوطات، مقابل تيار داخل الحزب كان باتجاه المقاطعة، وانتهت الأمور للذهاب للانتخابات ،وكان الذهاب موحّدا -على الأقل ظاهريا- ،ولم تتكرّر تجارب سابقة ،شهدت استمرار المناكفات أثناء عملية الانتخاب أو بعدها، وأبدت قيادات الحزب والجماعة ،انضباطا معقولا بهذا الاتجاه، رغم تباطئ الكثير من القواعد -خصوصا من فئة الشباب- عن المشاركة الفاعلة، وصلت ببعضهم حد المقاطعة.
أسباب المشاركة والمقاطعة عند فريقيهما، قد أشبعت نقاشا وتحليلا، وليس موضوع هذا المقال نقاشه، وإنما التركيز على سياق الانتخابات ونتائجها، ولكن من المهم تحرير مسألة هنا، وهي أن مشاركة “الإخوان المسلمين” تحديدا،ليست مسألة عابرة، بالنسبة للنظام السياسي في الأردن، الذي تشكّل له مشاركة “الجماعة” ،شرعية مهمة مضافة، يقدّمها عن مظهره الديمقراطي .هذه ليست كلمات أسوقها ،لإلقاء لوم مكرور عليهم، وإنما هي حقيقة، عبّر عنها الملك عبدالله الثاني شخصيا في المناسبة الوحيدة،التي ذكر بها أردنيا لفظة “الإخوان المسلمين” ليطير بها بعض أنصارهم، إذ كانت تحديدا في سياق الحديث من الملك عن قانون الانتخابات، بعد أن كثر الحديث عن تغييره، وصرّح حينها في لقاء اقتبست صفحة الديوان منه قوله: إنه لا داعي لتغيير قانون الانتخاب ،الذي شارك بموجبه “الإخوان المسلمون” بحسب كلمات الملك، وكانت هذه المناسبة الوحيدة التي يعترف فيها الملك ب”الإخوان المسلمين” في الأردن بعد الثورات المضادة، عبّر ذلك عن معادلة غير محكية، تمثّلت بأن بوابة الإخوان لكسب الشرعية التمثيلية هي الانتخابات،بغض النظر عن القانون، وبوابة اكتمال “المشهد الديمقراطي” للنظام السياسي، هي بمشاركة “أكبر أحزاب المعارضة” في “العرس الديمقراطي”.
كانت هذه معادلة ٢٠١٦، ولم يتغيّر مشهد ٢٠٢٠ كثيرا، إلاّ بالمزيد من زحف السلطة على الإخوان والنقابات وكثير من القوى السياسية، وعلى ذلك يمكن بسهولة توقّعاتها شكل المشهد في ٢٠٢٤، بسحب متّجهات القوى ضمن خطوطها الطبيعية، ما لم تتغيّر قواعد اللعبة، فهل ساهمت الانتخابات في أي تحريك للمشهد؟!
بالنظر لانتخابات ٢٠٢٠،فقد كان جليا ذهاب الإخوان والحزب من خلال التحالف الوطني للانتخابات، ذهابا كاملا قويا بكافة ما أوتيت الجماعة والحزب والتحالف من أدوات، دون اختلاف يذكر عن تجربة ال٢٠١٦، ومن ذلك التركيز على الكوتات بقوة، والتي شكّلت فارقا مهما في ٢٠١٦(حوالي ربع المقاعد في ٢٠١٦ كانت من خلال الكوتات).
وبدأت فعلا المعركة الانتخابية: استراتيجية السلطة كانت باتجاه ضمان مشاركة الإخوان دون إعطائهم أي مميّزات، بمعنى أوضح ،أن تلجأهم للانتخابات رهبا لا رغبا، وتحجّم وجودهم في المجلس على ثلاثة صعد: عدديا ونوعيا وديمغرافيا، فيتحقّق الهدف من مشاركتهم، بإضفاء الشرعية على الانتخابات ،وتعزيز نسبة المشاركة الهزيلة، دون مكاسب طويلة الأمد لهم،
أما تحجيم وجودهم عدديا ،فمن خلال تقليل المقاعد، ونوعيا بضرب النواب ذوي الحضور الأقوى، وديمغرافيا بحصر وجودهم في عمان والزرقاء ومنعهم من استغلال ” الكوتات”، وخصوصا من المسيحيين والشركس والشيشان، وما يحمل ذلك من أثر بالغ في حالة نجاحه على “فكرة” التحالف.
أما الإخوان ،فكانت استراتيجيتهم ،الذهاب للانتخابات،لتحقيق شرعية انتخابية وتمثيلية، بعد تجريدهم من الشرعية القانونية(المتمثّلة بالخلاف القانوني بين الجماعة والجمعية)،وخسارتهم للشرعية الرمزية من خلال خروج القيادات التاريخية والرمزية من الجماعة أو وفاتهم (يذكر في هذا السياق أن من بين ٣ مراقبين عامين سابقين للجماعة، لم يبق في صف الجماعة إلا واحدا منهم، بالإضافة لفقدانها للعديد من القيادات السياسية الفاعلة ،إمّا بانشقاق، أو خروج هادئ،أو تجميد الفعالية).
في سياق النتائج ،فقد ربحت السلطة وخسرت، وربح الإخوان وخسروا، مع التأكيد على فكرة أن المعركة ليست في كل مفاصلها صفرية بالضرورة، بمعنى ليس بقدر ما يكسب أحدهما يخسر الآخر، إذ قد تتحقّق نتائج إيجابية للطرفين في بعض الملفات، تفصيليا:
١- عدديا
نجحت السلطة نجاحا جزئيا ،بالتحجيم العددي بتقليل عدد نواب التحالف من ١٤(أو ١٣باختلاف طرق الحساب) في عام ٢٠١٦ إلى ١٠ في عام ٢٠٢٠ (هذا باحتساب نائبي العقبة اللذين لم يترشّحا باسم التحالف).
٢-ديمغرافيا
“النجاح الجزئي” للسلطة أيضا، يمكن أن يصف التحجيم الديمغرافي، إذ خسرت قوائم التحالف في جرش والبلقاء اللتين أخرجتا نائبا عن كل دائرة في ٢٠١٦، وخسرت قائمة التحالف في إربد ،على الرغم من تجاوز الخطأ في الدورة الماضية بترشيح قائمتين.
أما الكوتات، فقد انسحب مرشحون مسيحيون من قوائم التحالف ،تحت الضغط الاجتماعي والسياسي، أبرزهم عودة قوّاس في الدائرة الثالثة ،الذي كان مرشّحا بحظوظ قوية جدا، وانسحب بذات الطريقة منصور مراد، النائب عن التحالف في نفس الدائرة للدورة الماضية (المقعد الشركسي)، كل ذلك وغيره كلّف ديمة طهبوب مقعدها في الدائرة الثالثة، أما الزرقاء، فحكاية مشابهة في خسارة الكوتات (المرأة والمقعد الشركسي والشيشاني)، لكن في هذا السياق ،فقد حافظ الإخوان على شيء من التمثيل الشركسي(عدنان مشوقة في عمان الخامسة) ،أما الاختراق الكبير الذي حققه الإخوان في هذه الدورة، والذي قد يكون من أهم نجاحاتهم فيها ،هو اكتساب تمثيل جديد خارج عمان والزرقاء، لكن هذه المرة بالانتقال من شمال المملكة إلى جنوبها ،وتحديدا بنائبين في الكرك، ونائبين في العقبة، وهذا انتصار كبير جدا لمن يعرف عقلية السلطة.
٣-نوعيا
فقد فازت السلطة بالضربة القاضية حرفيا،
فنواب التحالف مستجدون على المجلس تماما، باستثناء نائبين، هما: صالح العرموطي وموسى هنطش . ليس هذا فحسب ،فزعيم الكتلة عبدالله العكايلة،قد خسر مقعده، الذي اعتاد على شغله منذ الانتخابات التكميلية لعقود طويلة،حياة المسمي وديمة طهبوب خارج المجلس، وحتى القوائم التي نجحت في عمان الثانية ،والزرقاء الأولى،فقد خسرت موسى الوحش وبهجت حمدان، وأي منهما ربّما شكّل خيارا معقولا لرئاسة الكتلة، كل ذلك جعل من الطبيعي جدا تصعيد صالح العرموطي كرئيس للكتلة.
“أبو عماد” قامة نيابية مرموقة، وصاحب باع في العمل القانوني، ولكن أي دلالة أكثف من أن لا يجد “الإسلاميون” من يقود كتلتهم في المجلس ،ويلجؤوا لرجل لاينتمي للجماعة ولا للحزب، لا سابقا ولا لاحقا ،ليقوم بهذه المهمة، كل هذا لا يطعن بانتماء أبي عماد للكتلة وحرصه عليها، ولكن هذه علامة يجدر الوقوف عندها مطوّلا، فهي تعبّر جليا عن أزمة قيادية كبيرة داخل الحركة الإسلامية.
نقاط على طاولة النقاش السياسي، لمن أحب تقييم التجربة:
١- التأخّر الكبير في تشكيل القوائم والإعلان عنها، بعد التردّد بين المشاركة أو المقاطعة، سبّب إرباكا كبيرا ،كانت تكلفته خسارة أكثر من مقعد للتحالف، هذا كان عاملا حاسما في خسارة التحالف للمقعد الشيشاني والشركسي في الزرقاء الأولى ،والذي كان بكل أريحية ،يمكن أن يكون من نصيب النائب السابق نبيل الشيشاني، الذي آثر الالتزام بقرار الحزب بالترشّح من عدمه، مما أفقده إجماعا حاسما عرض عليه من هذه القاعدة ،مما كلّفه مقعده، نفس الكلام يمكن أن يقال عن إربد ،التي بقيت حتى الساعات الأخيرة، وهي تحاول إكمال قائمتها ،بعد سلسلة فقدها لعدد من المرشحين تحت الضغط ،الذين كان يمكن أن يشكّلوا قيمة مضافة، مما جعل مجرد إكمال القائمة هدفا بحد ذاته، ومثل هذا، يمكن أن ينسحيب على قوائم أخرى، لكن يبدو أن حسابات التأخير لعدم فقدان الرصيد الشعبي في حال تأجيل الانتخابات كانت غالبة في ذهن القيادة ،دون نظر في التفاصيل ،التي يمكن أن تترتّب على التأخّر في تشكيل القوائم.
٢- خسارة عبدالله العكايلة ،لا تتحمّل كامل وزرها السلطة، إذ كان متوقّعا من قيادات وقواعد التحالف، السعي لإنجاح العكايلة ،بعد الإشارات المتتالية للعكايلة بعدم الترشّح،ثم الضغط الخشن عليه من خلال ابنه وائل (بالمناسبة أنا لا أبرئ الدكتور وائل ولا أتهمه وليس هذا سياق الحديث، أنا أتكلم عن التوظيف السياسي لقضية منظورة قانونيا)، وقد رشح من الوسط المقرّب للعكايلة لقاؤه في الديوان الملكي، الذي كان ذا طابع خارج عن البروتكول المعهود، ابتداء من إجراءات الدخول ،وحتى الرسالة في الداخل، الرسالة التي نقل مقرّبون من العكايلة ،أنها كانت بخطورة الترشّح للانتخابات، ونقلت أوساط مقرّبة من الديوان، أن اللقاء كان بطلب من العكايلة شخصيا، للوساطة لإنهاء قضية ابنه الدكتور وائل، وأيّا كانت صحة التفاصيل، فإن الرسالة واضحة، أن النجم المخضرم لمجلس النواب في خطر، وبالتالي فقيادة الكتلة في خطر.
كل ما سبق،لم يستنفر ما يقابله من قواعد الإخوان، أو قيادتهم للدفع لإنجاح العكايلة، الذي تم التعامل معه كأي مرشح آخر، بمنطق مساواة،قد يستقيم حين الحديث عن إجراءات شكلية متساوية لا يفرّق فيها التحالف بين مرشّحيه، لكنها لا تستقيم تماما عند الحديث عن معركة انتخابية، حيث تم ترشيح قائمتان في عمان الثانية، ووجد المتحمّسون لأيوب خميس في ذلك ،فرصة مواتية لرد الاعتبار لخميس عن الدورة الماضية، حيث خسرت قائمة خميس مقابل قائمة الوحش وقائمة العكايلة، فيما يبدو أنه خروج حتى عن التعميمات الداخلية من الجماعة لأنصارها، ضمن تقسيم المناطق بين القائمتين في عمان الثانية، والنتائج التفصيلية التي ستظهر من الهيئة المستقلة للانتخابات ستصدّق هذا أو تكذّبه.
خسارة العكايلة لها أبعاد كثيرة ،تحدّثت عن بعض أبعادها فيما سبق من غياب قيادة الكتلة، ولكن هذه الخسارة مضاعفة مع تصعيد نواب بلا خبرة نيابية، فقد كان العكايلة بمثابة نازع فتيل ألغام في الكتلة وحولها في المجلس، أما اليوم فالكتلة تمتلك في داخلها قنابل موقوتة يسهل تثويرها،إمّا داخل المجلس،أو من خلال “لايف على الفيسبوك”.
٣- هناك بعض الأخطاء التي تخلّلت تشكيل القوائم، نتج بعضها عن الضغوط الكبيرة، وبعضها عن عدم تقدير للعواقب،فمثلا ما هي الرسالة التي يمكن أن تصل لعشائر عمان الخامسة، حين يشكّل التحالف قائمة تضم في عدادها عددا أبناء عشائر المنطقة، ثم يفوز بالمقعد شخص عدد أفراد عشيرته في الدائرة ٦٧ شخص، مثل هذه الرسالة ستجعل من تشكيل قوائم تضم أبناء العشائر في المرات المقبلة مهمة شبه مستحيلة، خصوصا وأن هذه الرسالة ستتلقفها الجهات المختصة ،وستتبرّع بإيصالها لكل راغب في الترشّح مع قوائم التحالف، الرسالة التي كانت تصل بصعوبة النجاح مع قوائم التحالف في هذه الدورة، ستكون مقترنة في المرة المقبلة بالدليل والأرقام.
٤- هناك عزوف شبابي واضح من قواعد الجماعة عن المشاركة في العملية الانتخابية، وكل مبادرات اللحظات الأخيرة ،لم تنجح إلا في استفزاز القليل من الطاقات، وهذا مردّه إلى أمور كثيرة ليس هذا مكان نقاشها.
أما ما يلخّص المشهد بجملة واحدة من وجهة نظري المتواضعة، فهو أن التحالف ربح العديد من المقاعد، مع تحقيق اختراقات نوعية في الكرك والعقبة،ولكنه ربما خسر “فكرة” التحالف ذاتها، ،بمعنى أن هذه الانتخابات،كانت فرصة مواتية للسلطة ضمن الظروف السياسية، محليا وإقليميا، من تحويل “التحالف الوطني” ذي التوجه السياسي ،والقيادة الكاريزيمة ،والتنوّع الديمغرافي، إلى قائمة حزبية تنافس على هامش معقول، تتردّد دائما في التفكير بين المحافظة عليه ،مقابل الذهاب لمغامرة في المواجهة مع السلطة قد لا تمتلك أدواتها.