علاء أحمد القضاة*
جاءت الانتخابات النيابية هذا العام، في ظل انفجار الحالة الوبائية،والأردن يُسجّل أعلى نسبة إصابات لكل مليون عالمياً، وقامت السلطة بفاعلية برعاية الانتخابات الداخلية للعشائر، وتقديم الدعم اللوجستيّ لها لإفراز مرشحيها، في دلالة واضحة على الأهمية، التي تعلّقها مصانع القرار على وجود البرلمان، أي برلمان، المهم أن يكون موجوداً، وأن تكون الرسالة للخارج والداخل، أن الشعب مُمثّل من خلال نوّابه، وأننا نعيش في بلاد ديمقراطية.
لقد كانت الانتخابات دائماً ملجأً للسلطة،ركضت إليها كلّما تأزّمت علاقتها بالشارع، لإعادة إشغال الناس،وكسب مزيد من الوقت، وإعادة إنتاج ذاتها أيضاً، وتضليل الشعب، من خلال إحالة الفشل الحاصل في مؤسسات الدولة عليه، بالمنطق الذي يقول : ها نحن نعطيك الفرصة، أحسن الاختيار، وإلاّ استمر الانهيار، وهذا هو مجلس النواب الذي انتخبه الشعب، ها هي حصيلة تصويتكم أنتم، وهذا ما تريدونه، لا ما نريده نحن.
في ظل هذا الخطاب،تحاول السلطة تغييب العناصر الأساسيةالتي تُشكل المشهد النيابي،فمنذ نشأة الدولة الأردنية،سعت السلطة دائماً إلى إنتاج طبقة من المتنفعين حولها، يكونون وسطاء بينها وبين الشعب،أو ما يسمّى بالنظام الزبائني،يعني أن السلطة قامت بتوظيف أشخاص معيّنين، وهم ما يُعرفون بال Patrons ( نواب، قيادات عسكرية، وجهاء عشائريون .. الخ )،من أجل أن تقوم بتوزيع الثروة من خلالهم على الناس، وبالتالي كانت علاقة الناس مع الدولة،ليست علاقة انتماء مباشر،وليست علاقة مواطن يشعر بوطنيته وانتمائه للدولة الأم، بل علاقة مشوّهة، تقوم السلطة من خلالها بتحديد من يستحق أن يحصل على وظيفة أو منحة دراسية، بناءً على مدى ولائه للسلطة لا للدولة، ويتم التوزيع من خلال الطبقة الزبائنية على الشعب،وبالتالي فإن المواطن البسيط، لا يشعر بقدرته على الوصول إلى موارد الدولة والاستفادة منها، إلاّ في حال وجود تمثيل له، تمثيلٌ قائم على قرابة الدم والنسب كما أرادته السلطة. في القرن الماضي، كانت الدولة في بدايات تشكّلها، والمؤسسات ما تزال ناشئة، وكانت تكفي لاستيعاب حاجات المجتمع، إلا أن المشكلة ،أن المؤسسات وقفت عند ذلك الحد، ولم تواكب تطوّر المجتمع، مما زاد الضغط عليها وأرهقها ،وانعكس هذا الإرهاق بالضرورة على المجتمع، بل كانت هناك حركة عكسية لتقليص هذا المؤسسات وتحديدها، ففي بداية التسعينات، بدأ نهج ما يُسمّى بخصخصة المؤسسات الوطنية،الذي انتهى ببيع كثير من مقدّرات الشعب الأردني، وبهذا انسحبت الدولة بشكل كبير من دورها الاجتماعي في خدمة الناس،وتقديم الخدمات الأساسية لهم، مما جعل الناس يرتدّون بشكل أكبر إلى هويات فرعية،إلى العشيرة والقرية، لتكون معبّرا عنهم،وحامياً لمصالحهم، فالمعادلة صارت تنصّ على أن العشيرة التي تفتقد التمثيل، يضيع نصيبها من الثروة الوطنية.
بهذه المقدمة الطويلة،نستطيع أن نفهم نسبة المشاركة 29.9%،والتي تأتي في سياق محاولة كل مكوّن اجتماعي للحفاظ على مصالحه،حتى وإن كان هناك سخطٌ عام في البلاد على سياسات السلطة،فيما يتعلّق بنقابة المعلمين، خصوصاً وإدارة أزمة الكورونا،وعدم التجهيز والاستعداد لها، المقاطعة هنا، كانت تعني عملياً ،أن الشعب غير حاضر ولا ممثّل، ومن بدهيات السياسة،أن قبول الشعب ورضاه ضروري لاستمرار الحياة السياسية،وحياة الدولة ذاتها،هذا إذا أضفنا القاعدة المستفيدة بشكل أساسي ومباشر من السلطة،والتي حاولت تحشيد كل ما تملك، والدفع بكل أدواتها لإنجاح العملية الانتخابية.
مجلس النواب يتم هندسته،مثل أي مؤسسة أخرى، من خلال القوانين التي تشكّله، وأحد الأصدقاء وقف في مؤتمر عن القوانين الانتخابية في بريطانيا، وراح يشرح عن قانون الصوت الواحد،وأثره على النسيج المجتمعي وتفسُّخه، هزّ الخبير الانجليزي رأسه قائلاً : هل أنهيت كلامك ؟ ، قال : نعم ، فقال له : أعطني شكل المجلس الذي تريد، وأنا سأقوم بتفصيل القانون الذي يسمح لك بالحصول على هذا المجلس ..
أي أن قانون الانتخاب، هو المحدّد الأساسي لشكل المجلس،كم مقعداً ستسمح به السلطة للإسلاميين، كم مقعداً للأحزاب،كم مقعداً للمسيحيين والشركس والكوتا النسائية،وكم مقعداً لنواب الخدمات، وبناءً على هذا،تقوم السلطة بإنتاج القانون للحفاظ على الهندسة الداخلية لمجلس النواب،وفي حال تشكّل مجلس قوي، تقوم السلطة بالقانون أو بدونه بحلّ المجلس، كما فعلت تماماً بنقابة المعلمين، عدا عن النوّاب، الذين يتم التزوير لصالحهم لإيصالهم،وهنا تتهافت الحجة القائلة بأن المجلس،هو حصيلة انتخاب الشعب وإفرازه الطبيعي !
على المستوى الشخصي، تبنّيت خيار الدعوة إلى المقاطعة،كإجراء شعبيّ عقابيّ لما فعلته السلطة بنقابة المعلمين،وهذا كان التزاماً بقرار حزب الشراكة والإنقاذ، الذي تماشى مع قرار الحراكات الشعبية، والمزاج العام للناس،ولكنني في الوقت ذاته، لا ألوم التحالف الوطني للإصلاح على المشاركة، ولا أراهم خارجين على الإجماع الوطني، فظروفهم هي التي اضطرتهم للذهاب بهذا الاتجاه .
لقد شاركتّ كتلة الإصلاح في ظل استهداف واضح لها وممنهج،والمشهد الذي نراه اليوم، هو حصيلة أحداث وعوامل وسنوات طويلة من الشد والجذب بين الإسلاميين والسلطة، حاول فيه الإسلاميون تحسين ظروف وجودهم، إلا أن السلطة أبدت استعدادها دوماً لإضعافهم، وتفكيك مؤسساتهم باستمرار.
ففي الأزمة التي نتجت عن تأسيس (جمعية الجماعة)، خسر الإسلاميون الغطاء القانوني، وكشفت السلطة ظهورهم، وصاروا معرّضين، للحل وللحظر في أي لحظة، بسيف القانون، وفي فترة الربيع العربي،خسر الإسلاميون جزءاً كبيراً من شرعيتهم الشعبية،نتيجة أخطاء فادحة في إدارة حالة الحراك، والانقسامات والاختلافات مع القوى الشعبية الأخرى، وبهذا تكون الشرعية الشعبية للإسلاميين قد تضرّرت بشكل كبير، وتبقى هنا الشرعية السياسية، التي تتمثّل بوجود التحالف الوطني في البرلمان، وهذا أيضاً،لم يسلم من محاولات التكييف والتحديد والتهشيم والضبط، حتى لا يسمح للكتلة بالتمدّد وزيادة أرقامها في البرلمان،وهذا يتمثّل بوضوح، ففي هذه الدورة حصلوا على 10 مقاعد فقط، بينما كانت مقاعدهم 15 في المرة الماضية،أي أنهم فقدوا ثلث مقاعدهم،ولم يقتصر الأمر على هذا الحد، فقد تم التلاعب بطبيعة المرشحين،وتحديد من يفوز ومن يخسر، فمحاولات ابتزاز د.عبدالله العكايلة، الوجه الأبرز ورئيس كتلة التحالف سابقاً من خلال قضية ابنه وائل، وإفشاله في الانتخابات، ومحاولات إفشال قائمة التحالف في الدائرة الثالثة في عمان، من خلال الضغط على المٰرَشْحَيْن المسيحي والشركسي، بهدف ضرب فرص صالح العرموطي، والنائب القوية جداً د.ديمة طهبوب، والتي خسرت مقعدها نتيجة لذلك، إضافة إلى عدم نجاح هدى العتوم في جرش، وحياة المسيمي في الزرقاء… إنّها شخصيات لا يمكن تعويض غيابها،مهما دخل المجلس من نوّاب جدد،فالعدد أقل،والكتلة الآن بلا قيادة تتسم بالخبرة الطويلة، وهذا يعني أن تدخّلات السلطة لإضعاف الكتلة ستستمر، حتى تقوم بتحجيمها وإفقادها رصيدها واستنزافها باستمرار.
بناءً على ما سبق، فإنني لا ألوم كتلة الإصلاح على المشاركة،فهي في موقف لا تُحسد عليه، وليس من مصلحة أي عامل في المجال العام الوطني،أن تستفرد السلطة بكتلة الإصلاح، باعتبارها عنصراً أساسياً وضرورياً في أي مشروع تغييريّ.
ولكنني ألومها، إذا اكتفت بذلك فقط، فالمهم الآن، هو أن يتمّ رأب الصدع، الذي حدث سابقاً، فالسلطة تستثمر في الخلافات بين القوى الشعبية، والمراقب لهزائم الشعوب في الربيع العربي يعي تماماً أن الجيوش ومؤسسات الدول العميقة، قامت بتأليب الأطراف على بعضها،ثم استفردت بكل طرف على حدة، وأبطلت الإجماع الوطني،وعادت لقيادة وإدارة المشهد من جديد، وبالتالي فإن المهم الآن أن يتم رأب الصدع، وأن يعاد ترميم العلاقة الشعبية – الشعبية، وأن تنتج كتلة الإصلاح شرعيتها الشعبية من جديد،من خلال عودتها إلى حضن الحراك، كعنصر أساسي فيه،ووجود نواب في المجلس يحمي هذا الحراك ويقويه، لتقوم عندها القوى الشعبية والحزبية، بتشكيل جبهة وطنية واسعة تقود التغيير.
أما الذين ذهبوا باتجاه المقاطعة – وأنا منهم -،فإنهم مُلزمون اليوم هم وشركاؤهم بواجب وطني وأخلاقي، يإنتاج مشروع يلبيّ طموحات الناس،ويعبّر عنهم،ويوحّد جهودهم، ليستعيد الشعب دولته سلطةً وموارد،ويتم صياغة المعادلة السياسية، بما يكفل أولوية كرامة المواطن، ونهضة الوطن.
*ناشط سياسي أردني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)