اختطف الإعلمامي اللبناني، نديم قطيش، الأضواء عام 2012 خلال تشييع اللواء وسام الحسن، عندما أطلق صحيته الشهيرة : ” يا شباب و يا صبايا … يالله يالله عالسرايا”، التي ألهبت حماس المتظاهرين الغاضبين، ودفعتهم إلى التوجّه إلى مقرّ الحكومة اللبنانية ومواجهة رجال الأمن.
في ذلك الوقت، لم يكن يعرف الكثير من المتظاهرين، من هو نديم قطيش، ولم يكونوا يعرفون أن هذا الشاب الذي أطلق هذه الصيحة ، هو مقدّم أخبار مغمور في قناة “المستقبل” اللبنانية، لكن المساحة الواسعة التي أفردتها وسائل الإعلام لهذه الحادثة، نقلت قطيش من مجرّد مقدّم إعلامي غير معروف، إلى شخصية سياسية مشهورة، حيث أصبح ضيفاً دائماً على القنوات اللبنانية المعارضة للنظام السوري وحزب الله.
بعد هذه الحادثة، أفردت قناة (المستقبل)، مساحة مستقلة لقطيش، ومنحته برنامجاً ساخراً اسمه “DNA” ، وهو البرنامج الذي شكّل لاحقاً علامة فارقة في مسيرة قطيش الإعلامية، حيث لقي البرنامج صدى كبيراً لدى المشاهدين، بسبب التعليقات الساخرة والحادّة، التي كان يطلقها نديم قطيش، ضد النظام السوري وحزب الله.
و على الرغم من أن البرنامج، قد تضمّن بعض المواقف المثيرة للجدل، من المقاومة الفلسطينية، وحركات الإسلام السياسي إلا أن الخط العام للبرنامج، كان يستهدف انتقاد ممارسات حزب الله، والسخرية من الخطاب الإعلامي للحزب والمحسوبين عليه، وهو ما جعل هذه المواقف تمّر دون أن تلقى اهتماماً من المتابعين.
لكن الضائقة المالية، التي كانت تمّر بها قناة (المستقبل)، وبيع حقوق البرنامج إلى قناة العربية، التي أصبحت فعلياً تدفع راتب قطيش، فرض سياسات جديدة على البرنامج، إذ بدأت مساحة الشأن اللبناني تتقلّص شيئاً فشيئاً، لمصلحة شؤون أخرى، مثل: الترويج لحرب اليمن، وانتقاد الحوثيين، والترويج لسياسات المملكة العربية السعودية في المنطقة.
وهي المواقف التي بدأ قطيش بالتماهي معها، حتى خارج البرنامج، من خلال المقالات والمواقف التي يكتبها على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ بدأ يوسّع شيئاً فشيئاً من قلمه اللاسع، ليطال تركيا، والمقاومة الفلسطينية، وحركات الإسلام السياسي.
وقد وصل هذا التماهي ذروته، حين قام قطيش بكتابة تغريدة تضمّنت عبارات بذيئة ضد أردوغان، خلال محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016م، وقد أثارت هذه التغريدة جدلاً شديداً، دفع قطيش للاعتذار لاحقاً وشطبها، زاعماً أنها كانت مجرّد نكتة، وأنه لم يكن يقصد تأييد الانقلاب على الرئيس التركي، ويرفضه تماماً مثلما رفضه وقت الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي.
لكن مسيرة قطيش الإعلامية، شهدت سقطة جديدة عام 2018م، بعدما انبرى للدفاع عن السعودية، خلال أزمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، حين رفض الرواية الإعلامية الرائجة حول فرقة الاغتيال السعودية، قائلاً: إنهم كانوا سيّاحاً، ومهاجماً ما وصفه بالكذب التركي.
وعلى الرغم من أن قطيش، قال لاحقاً: إنه ليس فخوراً بجوانب من تغطيته لقصة خاشجقي، لكنه يرفض المحاولات القطرية والإخوانية للنيل من الأمير محمد بن سلمان، ومحاولاتهم إثارة الفتنة في المملكة العربية السعودية.
وبصرف النظر عن هذه السقطة، فإن قطيش قام بتحويل برنامجه وصفحته على موقع “التويتر”، إلى بوق رخيص لمدح الأمير محمد بن سلمان، بسبب وبدون سبب، لدرجة أنه قال عن محاكمة قتلة خاشقجي الهزلية: إنها تعكس إرث الحق والعدل في تاريخ المملكة.
وقد دفع هذا المدح والترويج المستمر لولي العهد السعودي، صحيفة (الأخبار اللبنانية) إلى السخرية من قطيش، ومنحه “وسام المطبّلين“، واصفة تغريدته بالتزلّف والتملّق المكشوف.
ويبدو أن الإعلامي اللبناني، لم يكتف بهذا القدر من السقوط، واستمتع به، فقرّر أن يولّي وجهه شطر الإمارات، التي أصبحت قبلة المطبّعين، ومحجّ المرتزقة، حيث لم يفوّت الإعلامي اللبناني، فرصة لتبرئة الاحتلال الإسرائيلي من جرائمه بحق الفلسطينيين، الذين يحمّلهم قطيش مسؤولية موتهم، و”استجرار” المعارك، و”ضرب فرص السلام”، في تصريحات تحاكي تسارع وتيرة تطبيع دول عربية عديدة مع الكيان الصهيوني في الفترة الأخيرة.
ولا يبدو أن خطاب قطيش المتماهي مع الإمارات في ذلك الوقت، جاء عفوياً، بل بات شبه مكرّس سواء في مقابلات قطيش الإعلامية، أو في تغريداته.
و كتب في 5 آيار (مايو) 2019، تغريدة على التويتر قال فيها: «كم وجبة إفطار تشتري قيمة مئات الصواريخ التي أطلقت من غزة؟». كما قال: «غزة تعاني بالطبع، ولكن الحل العاقل، هو تفاهمات سياسية في إطار اتفاق سلام، وليس صواريخ التنك!».
وهي التغريدة التي احتفى بها حساب “إسرائيل بالعربية”، التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية بتغريدات قطيش، والحسابات الإسرائيلية الأخرى على مواقع التواصل الاجتماعي.
ثم ظهر قطيش بعد ستة أيام فقط، في برنامج “نهاركم سعيد” الصباحي، الذي تعرضه قناة “إل بي سي آي” اللبنانية، معلّقاً على التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد قطاع غزة، إن حركة “الجهاد الإسلامي”، و”حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) “استجرّتا” المعركة، مطالباً بـ”الكفّ عن المتاجرة بدماء غزّة”.
وقد أثمرت مواقف قطيش المستمرة والمجّانية، في مدح العدو الصهيوني، والنيل من المقاومة الفلسطينية، في جذب اهتمام المسؤولين في الإمارات العربية المتحدة، إذ أعلنت قناة (سكاي نيوز) المموّلة إماراتياً قبل أشهر انضمام قطيش لفريق المحطة الإعلامي، وأطلقت مطلع الشهر الحالي برنامجاً يومياً جديد اسمه “الليلة مع نديم”.
وقد قدّم قطيش حتى اللحظة نحو 22 حلقة، كانت أغلبها تدور حول تأييد التطبيع، وانتقاد تركيا وحركات الإخوان المسلمين، لكن الجديد هذه المرة أن برنامج قطيش حمل انتقاداً وهجوماً مباشراً على قطر وأميرها.
ويبدو أن استقطاب قطيش من قناة “العربية” ونقله إلى “سكاي نيوز”، كان هدفه رفع السقف السياسي للبرنامج، بشكل يسمح لقطيش بتأييد التطبيع علناً، ومهاجمة قطر بدون تحفّظات، كما كان الوضع سابقاً في قناة “العربية”، التي وعلى الرغم من النفوذ الإماراتي فيها، إلا أنها تبقى أسيرة الحسابات السعودية.
وعلى الرغم من أن مسيرة قطيش منذ سطوع نجمه الإعلامي في ظل آل الحريري، حتى تحوّله مؤخّراً إلى مطبّل ومروّج لسياسات الإمارات والتطبيع، يبدو طبيعياً و متناسقاً تماماً مع قناعاته الشخصية، إلا أن تاريخ نديم قطيش قبل تلك الفترة يبعث على الدهشة.
فنديم قطيش، ترعرع في أسرة شيعية، بعثية الهوى، وقومية المزاج، ووالده كان ينتسب إلى حزب البعث العربي الإشتراكي، أما نديم نفسه، فقد التحق في شبابه بالحزب القومي السوري الاجتماعي.
لكنه اصطدم في الحزب بعد شهرين، على خلفية استضافة مسرح بيروت، للممثل اليهودي المغربي إبراهيم السرفاتي، إذ كتب قطيش مقالة في جريدة السفير، يدافع فيها عن استضافة السرفاتي، وينتقد موقف الحزب الرافض له.
وبعد هذا التصادم، جذب قطيش أنظار الصحف والقنوات الليبرالية في العالم العربي، إذ انضم بعدها إلى صحيفة (إيلاف) إلكترونية، ثم انتقل بعدها لقناة أبو ظبي، قبل أن يستقر به المقام في قناة “الحرّة” الأمريكية، لكن نديم قطيش بقي مغموراً، على الرغم من أنه حاول اكتساب مكانة وشهرة، من خلال عقد لقاءات وعلاقات مع مسؤولين إسرائيليين مثل، برعنان غيسين، مستشار شارون.
والغريب أن قطيش، الذي فشل في تجسيد نفسه ككاتب في الصحف العربية، وفشل كمذيع إخباري ومقدّم للبرامج، وبقي غير معروف لأكثر من 15 عاماً، نجح في مجال “الستاند آب كوميدي” والتهريج، ويحاول اليوم أن ينطلق مرة أخرى من قناة (سكاي نيوز) وصحيفة (الشرق الأوسط) من أجل إحياء مسيرته كمقدّم برامج وكاتب صحفي.
ربّما يكون قطيش، الذي انتقل من حضن البعث السوري، إلى حضن تيّار المستقبل، ثم قفز لاحقاً في أحضان السعودية والإمارات، قد استطاع أن يدرك شيئاً من الشهرة والمال، لكنه فقد مقابلهما مصداقيته، يوم كذب بشأن قصة خاشقجي والسيّاح السعوديين، ثم فقد صورته التي رسمها كرافض للاستبداد، ومؤيّد للديمقراطية، حين أصبح مجرّد مطبّل لولي العهد السعودي، وهاهو اليوم، قد ختم كبائر الذنوب، بعدما أصبح “بيدقاً” تحرّكه الإمارات، وبوقاً مأجوراً لمدح الصهيونية، وشتم قطر وتركيا والمقاومة الفلسطينية.
زر الذهاب إلى الأعلى