ماجد أبو دياك*
الكرة الآن بملعب السلطة الفلسطينية،وهي سلطة الأمر الواقع ،التي كبحت جماح النضال الفلسطيني، من خلال اتفاقاتها مع المحتل، التي زعمت أنها أوقفتها، دون أن تفعل ذلك. وإذا لم تنضوِ فتح بالنضال من جديد، وببرنامج مقاومة حقيقي،قد يشكّل ذلك عائقاً أمام المقاومة ككل.
لم تشكّل الجامعة العربيةمنذ نشأتها، ظهيراً حقيقياً للشعب الفلسطيني،ولم تكن فلسطين عضواً فيها ،قبل أن يجري الاعتراف عام 1964،بمنظمة التحرير الفلسطينية المشكّلة حديثاً، ممثّلا وحيداً وشرعياً للفلسطينيين، وذلك بدعم النظام المصري، لحصر المسؤولية عن القضية بالفلسطينيين أنفسهم،وهو ما ثبت بالمواقف والممارسات العربية اللاحقة،وأهمها تلك التي تلت التوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993.
ولذلك،لم يكن موقف الجامعة الأخير من رفض إدانة التطبيع الإماراتي مع إسرائيل،مستغرباً ولا مفاجئاً،ولا سيّماوأن هذه الجامعة،تشكّل غطاء للموقف المصري،الذي ساند اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي!
لا تعويل على الأنظمة العربية،ولذلك، فإنه ليس على الفلسطينيين، التعويل على الموقف العربي الرسمي المتخاذل في عمومه.
ولئن استندت قيادة منظمة التحرير،على الدعم السياسي للجامعة لخطوات التسوية مع إسرائيل، منذ اتفاق أوسلو وحتى مبادرة السلام العربية عام 2002 ،فإن صفقة القرن، وموافقة زعيمة الجامعة العربية مصر عليها، ومن ورائها السعودية والإمارات والبحرين، دفنت حل الدولتين ومبادرة 2002. هذا فضلاً عن عدم دعم هذه الجامعة أصلاً لبرنامج المقاومة، بل ومحاصرته من مصر والسعودية والأردن وغيرها.
اتهمت المنظمة دوما الدول العربية بخذلان الفلسطينيين لمقاومتها، لتبرّر توقيعها لأوسلو، ولكن الحقيقة أنها سهّلت على هذه الدول،تقديم التنازلات لإسرائيل ،وإطلاق مبادرة 2002 ،التي تحدثت عن سلام وتطبيع ،ولكن بعد قيام الدولة الفلسطينية ،التي يعرف الجميع أن إسرائيل تجاوزتها، وها هي اليوم تتّهم دولاً عربية بالخيانة، متناسية أنها أول من أقام علاقات مع المحتل بعد كامب ديفيد 1979!
صحيح أن الإمارات والبحرين، اللتين أعلنتا تطبيعاً مع الاحتلال (كان مخفياً من قبل)،لم تقتديا بالمنظمة،بل خذلتا الشعب الفلسطيني،وتحالفتا مع إسرائيل ضد الفلسطينيين في اتفاقيتين لم يعرف حتى الآن مضمونهما، ولكن هذه الاتفاقات لم تكن لتتم، لولا أن هناك صورة سلام (مزيّفة ومعاكسة للواقع) قائمة مع المنظمة، الأمر الذي يستدعي بالأساس التخلّي عن هذه الصورة وبلا رجعة، والالتحام مع القوى المقاومة، في برنامج سينزع ورقة التوت عن هذه الأنظمة ،ويهيّء لتغييرات سياسية فيها تمسح العار العربي.
ومن الآن قصاعداً، لن يسعى العرب لأخذ الغطاء من المنظمة في أي خطوة تجاه إسرائيل، بل سيمارسون الضغط عليها لتقديم التنازلات للمحتل.
وبتنا نعيش في زمن السلام الاقتصادي، الذي بشّر به رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز ،ولكن دون دفع ثمن من الطرف الإسرائيلي للفلسطينيين،ضمن ما تضمّنته صفقة القرن المشؤومة، وقد قالها ترمب في حفل التوقيع على الاتفاقيتين الإماراتية والبحرينية مع إسرائيل ،بأن “الفلسطينيين كانوا يتعاملون مع دول عربية ثرية تموّلهم، ولكني قلت: لماذا تدفعون لهم إذا كانوا يسيؤون لأمريكا؟” ،وهو بذلك يشير إلى فك ارتباط الأنظمة العربية بفلسطين.
وقد روُج المطبّعون قبل وبعد الاتفاقيتين، بأن الدول العربية لم تجن شيئاً من مساعدة الفلسطينيين ،لتبرير التخلّي عن فلسطين ،والتوجّه نحو إسرائيل والتحالف معها.
وبهذا ستمضي الدول العربية الرئيسة مع صفقة القرن، التي نسفت حل الدولتين ،الذي استندت إليه القيادة الفلسطينية،ورفضته إسرائيل دوماً.
استراتيجية مغايرة
ولا بد والأمر كذلك،من تبنّي استراتيجية مختلفة عن السابق، لأنه لم يعد هناك ظهير عربي حقيقي للفلسطينيين، يتبنىّ حل الدولة الفلسطينية ،فضلاً عن الرفض الإسرائيلي القاطع لها، من كل أطياف اليمين واليسار.
ولم يعد بوسع الفلسطينيين الاستناد إلى الموقف العربي،بل وحتى تلقّي الدعم المالي، الذي أصبح وسيلة ضغط سياسي عليهم.
لقد فقدت عملية السلام قيمتها منذ زمن، لتقضي عليها صفقة القرن مؤخراً، ما يستدعي نبذ هذه العملية فلسطينياً، وامتلاك الجرأة لإعلان فشلها، والتخلّي عن كل التزاماتها ،بما في ذلك تفكيك السلطة الفلسطينية، وتشكيل قيادة وطنية تخوض النضال ضد المحتل بالإمكانات الذاتية، لجعل استمرار الاحتلال مكلفاً جداً.
ليست هذه فكرة مجنونة أو غير واقعية، فالاحتلال يجب أن يتحمّل كلفة احتلاله سياسياً واقتصادياً وأمنياً، والسلطة الفلسطينية وفقاً لاتفاقات أوسلو ،أراحته من هذه المهمة الثقيلة، في الوقت الذي حاصر فيه الاحتلال الفلسطينيين والسلطة التي تحكمهم ،وجعلها تنفّذ أوامره ومطالبه وخصوصاً الأمنية منها، دون أن تحصل هذه السلطة، على معالم السيادة الحقيقية على الأرض من الاحتلال، فلم تكن هناك حرمة حتى لمناطق سيطرتها الكاملة المعروفة بـA ،فضلا عن حرمانها من ذلك في مناطق B و C !!
والتنسيق الأمني ،أضعف الفلسطينيين، لأنه جعل السلطة “جيش لحد” للإسرائيليين ،ووجّه ضربات قاصمة للمقاومة،وجعل كلفة الاحتلال رخيصة جداً، وأغراه بالاستمرار في الضم والتهويد.
ولا بد هنا من قلب الطاولة على المحتل ،وعلى المتآمرين من العرب،وذلك لا يكون إلا بالاستناد إلى المقاومة بجميع أشكالها في الصراع مع الكيان الصهيوني،لدفع الطرف الإسرائيلي دفعاً ،ليعيد النظر في موقفه الرافض للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.
الوحدة والمقاومة
وقبل أن تتنصّل السلطة من التزاماتها، وتنبذها في وجه لاحتلال، فلا بد لها من تحقيق الوحدة الوطنية على الأرض ،على أسس صلبة،وإطلاق قيادة موحّدة للنضال في الداخل والخارج ،وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير، وفك ارتباطها بالأنظمة العربية، وخصوصاً مصر.
وذلك يستدعي ما هو أكثر من الاجتماعات الشكلية، التي تمّت حتى الآن، ولم تفض لآلية حقيقية بهذا الصدد، فلا بد من إدماج حماس والجهاد الإسلامي بالمنظمة، واستعادة ميثاقها الأصلي،الذي يدعو للكفاح المسلح لاستعادة الحقوق الفلسطينية.
أما الانتخابات ،فهي ليست شرطاً للوحدة في ظل الظروف الصعبة للشعب الفلسطيني ،خصوصاً في الشتات. وكلمة السر، هي الوحدة الفلسطينية، والتوافق على برنامج وطني فلسطيني، يستند إلى المقاومة بأشكالها كافة.
والمقاومة الشعبية التي يجري الحديث الآن عنها لدى الفصائل، كبرنامج الحد الأدنى،لا تصلح وحدها ضمن البرنامج الوطني، فلا حد أدنى أو أعلى للمقاومة، لأن عنفها الأشد، هو ما يجلب الحقوق ،ويعيد المقدسات ،ويضغط على الاحتلال، ويدفعه دفعاً لاعتبار الحقوق الفلسطينية، التي ضيّعتها اتفاقات التسوية.
وإذا لم تكن السلطة الفلسطينية وحركة فتح وارد لديها خيار التخلّي عن السلطة،والالتحام مع القوى الشعبية والشعب في مثل هذه التطورات، والأحداث المفصلية في الصراع مع الكيان الصهيوني، فمتى تكون جاهزة لذلك؟!
الكرة الآن بملعب السلطة الفلسطينية، وهي سلطة الأمر الواقع التي كبحت جماح النضال الفلسطيني من خلال اتفاقاتها مع المحتل التي زعمت أنها أوقفتها دون أن تفعل ذلك على أرض الواقع. وإذا لم تنضوِ فتح بالنضال من جديد وببرنامج مقاومة حقيقي، فقد يشكّل ذلك عائقاً أمام المقاومة ككل،لأن فتح تشكّل عصب السلطة التي لا تزال حتى الآن ترفض ممارسة جميع أشكال المقاومة وتحصرها بأحسن الأحوال بالمقاومة الشعبية السلمية. ولكن ذلك يجب أن لا يقيّد خيارات بقية أطياف الشعب الفلسطيني.
أما حماس ،فهي تتحمّل مسؤولية تاريخية لقيادة النضال الفلسطيني بمنظمة التحرير أو بدونها، ولن يكون قطاع غزة وحده قادراً على قيادة النضال ،ولا بد من تفعيل دور الضفة بالتعاون مع الفصائل الأخرى وبفتح أو بدونها.
وبإجماع وطني أو بدونه ،فلا بد للشعب الفلسطيني أن يقول كلمته، ويدفع النضال ضد المحتل نحو مستويات تصعيدية ،تعيد تحريك الجماهير العربية ،وقد تكون فاتحة لربيع عربي جديد.
*كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: TRT