نواف القديمي*
قبيل العيد الماضي،كنتُ أتحدث مع صديقٍ مصري، قلت له: بحول الله، هتكون السنة القادمة في مصر مع عائلتك وأصدقائك .. قال لي: والله بقيت خايف، أننا هنكون مثل الفلسطينيين والسوريين، اللي طلعوا من بلدانهم ،وهم يأملون بعودة قريبة، ثم اكتشفوا أنها رحلة اللاعودة ..
الأستاذ الفاضل،معاذ السراج ،والد الصديقين عمرو وعبدالرحمن،حكا لنا مرّةأنهم مذ خرجوا من سوريا عام ١٩٨٠،وهم في كل عيد،يقولون لأصدقائهم في الغربة: إن شاءالله، العيد الجاي بسوريا. يقول: اكتشفنا الآن ،أنه مرّ علينا أربعون عاماً،ونحن مازلنا نكرّر هذه الأمنية في كل عيد.
في كتابه “الآلهة التي تفشل دائماً”،يقول إدوارد سعيد: إن صعوبة المنفى، لا تكمن في الإجبار على العيش بعيداً عن الوطن، بل العيش مع أشياء كثيرة، تذكّرك دائماً بأنك منفي، وأن وطنك في الواقع ليس بعيداً عنك،وأن الحركة العادية للحياة اليومية المعاصرة، تبقيك في اتصال دائم مع المكان القديم، لكنه اتصال مُعذّب،لأنه يقرّبأشياء لا سبيل إلى تحقيقها.لذلك، فإن المنفيّ يحيا في حالة وسط، ليس وحيداً تماماً مع البيئة الجديدة، ولا هو تخلّص بالكامل من القديمة، محاصراً بنصف ارتباط ونصف انفصال، مشتاقاً إلى الماضي من جهة، منبوذاً منه من جهة أخرى.
بيكيت في مسرحيته العبثية “في انتظار جودو”،عبّر عن فكرة مرعبة، وهي أن تكون حياتك قائمة على انتظار ما لا يأتي. ، حيث جعل من “فعل الانتظار”،وسيلة لتحمل العيش وسط التكرار والتشابه،وغياب المعنى،وغموض المستقبل.لكن هذه المخاتلة النفسية الخطِرة ،قد تودي بك – كما في المسرحية – إلى التفكير بالانتحار .
جميعنا ننتظر أشياء قد لا تأتي،. لذلك ربما من الأفضل،ألا تأمل أو تنتظر، فالانتظار لن يعجِّل القدر أو يؤخّره،لكن سيجعلك في حالة ترقب وقلق دائمين،بانتظار لحظة ما قادمة، مثل “المسجون الاحتياطي” ،الذي ينتظر لحظة الإفراج عنه في كل لحظة، بعكس ذلك المحكوم بمدة طويلة ،حيث سيتكيّف مع حقيقة أن لحظة الحرية بعيدة .
لم أكن أحسُبُ ما مرّ عمداً، وعندما حَسَبت، وجدتُ أنني في أيلول/سبتمبر الحالي، أكملتُ ثلاثة أعوام في الغربة ،بعيداً عن الوطن والعائلة. مازالت المدة وجيزة مقارنة بكثيرين، ومازالت الظروف أفضل من مما هي لدى كثيرين، ومازالت التجربة لا تُذكر مقارنة بمعظم العرب هنا. وربما غدت هذه المرارات هي رحِمنا يا أهل اسطنبول وتلك وشائجنا .
كتبت مرّة،أنه في ثنايا كل هذا البؤس،الذي يحيط بأوطاننا العربية، ووسط آلاف ممن مرّوا بتجارب قاسية،ومن فقدوا أحبابهم، ومن خسروا كل شيء، إذا كنتَ حُراً، ولديك كِفايتكَ المادية، فأنت من ال 5% المحظوظين في العالم العربي، مهما بلغ حجم خساراتك الأخرى ..
*كاتب وباحث سعودي.
*(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).
زر الذهاب إلى الأعلى