حدثُ الإعلان عن اكتشاف الغاز، جعله يوما تاريخياً، بالنسبة لتركيا. ليس بمقداره المكتشف اليوم، ولا عائده الاقتصادي المباشر فقط، وإنما بدلالاته وانعكاساته الاستراتيجية.
أعلن أردوغان يوم الجمعة،٢٠٢٠/٨/٢، عن اكتشاف حقل الغاز الأكبر في تاريخ الجمهورية التركية، 320 مليار متر مكعب في البحر الأسود. مع ترجيح العثور على أحواض أخرى، واستمرار العمل في البحرين الأسود والأبيض المتوسط، وكذلك في البرّ التركي.كما أعلن أن بلاده لن تتوقّف،حتى تصبح من الدول المصدّرة للغاز.
الدلالة الأكبر والأهم هي تغيّر الانطباع العام الذي ساد لعقود، أن تركيا تفتقر لمواد الطاقة في برّها وبحرها. اليوم، ثمة دليل أن هناك حقولا يمكن اكتشافها، ومما يزيد في أهمية الحدث، هو أن ذلك تم بإمكانات محلية، وفق تصريحات المسؤولين الأتراك، وهو أمر له أهميته في ملف استراتيجي وحسّاس مثل الطاقة، ولاسيّما أن أردوغان في حديثه غمز من قناة الشركات العالمية، التي كانت بحثت سابقاً،وأعلنت عن عدم العثور على الغاز والنفط في تركيا سابقاً.
ما بعد ذلك، وأقصد هنا الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية والاستراتيجية، تتعلّق بما بعد الغاز المكتشف اليوم، وليس فيه ما كُتب وقيل عن المكاسب الاقتصادية لتركيا، واكتفائها الذاتي، وسدّها العجز الجاري،وما إلى ذلك كله، يعتمد على فرضية إيجاد حقول أخرى، وكميّات أكبر من الغاز، وهو أمر بات أكثر ترجيحاً من السابق، وربّما يكون مجرد مسألة وقت.
تستهلك تركيا سنوياً في حدود 50 مليار متر مكعب من الغاز، الذي تستورد أكثر من %99 منه، وبكلفة 12-13 مليار دولار سنوياً، بينما تشير تقديرات أخرى إلى إنفاقها عشرات مليارات الدولارات لاستيراد الطاقة، نفطاً وغازاً. (الجداول في التعليقات، بالتركية)
بافتراض عثور تركيا مستقبلاً على أحواض إضافية للغاز وبكميات كبيرة، يعود ذلك على تركيا بالفائدة والنفع من عدة زوايا:
– تقليل الاعتماد على الخارج في مجال الطاقة وصولاً للاكتفاء الذاتي.
– قد تصبح تركيا من الدول المصدّرة للغاز.
– توفير مليارات الدولارات، تقليل أو سد العجز الجاري وفق المسؤولين.
– المساهمة في تحديد سعر الغاز عالمياً وفق بعض الباحثين.
– توفير سيولة لمشاريع أخرى مهمة، مثل الصناعات الدفاعية.
– تقليل اعتماد تركيا على استيراد الطاقة، يمنحها مرونة وقوة أكبر في السياسة الخارجية.
– قوة إضافية لتركيا في مواجهة بعض الأطراف، مثل الاتحاد الأوروبي.
– البُعد الجيواستراتيجي الأهم في الموضوع.
هذه المكاسب الاستراتيجية،تعتمد على كمية الغاز، الذي يمكن لتركيا أن تكتشفه مستقبلاً، وأهمية خطوة اليوم أنها فاتحة هذا الطريق ،والخطوة الأولى فيه. وبالتالي فدلالاتها الرمزية والاقتصادية والاستراتيجية لا تخفى.
لكن أيضاً، وعلى هامش هذا الحدث المهم، ولاستكمال الصورة، يمكن تسجيل النقاط المهمة التالية:
– ما زلنا في مرحلة الاكتشاف، البدء في استخدام الغاز سيتطلّب سنوات من العمل، أردوغان وضع 2023 هدفاً، وبعض المختصين يتوقّعون مدة أطول، وبالتالي فالمردود الاقتصادي ،الذي يتم الحديث عنه، ليس مباشراً ولا قريباً جداً، لكن مستوى الثقة بمستقبل اقتصاد تركيا، قد يرتفع اعتماداً على هذه التوقّعات.
– بالحساب البسيط المباشر (وهو تبسيط مخّل لكن للتوضيح فقط)، الكمية المكتشفة اليوم، قد تكفي حاجة تركيا لـ 6-7 سنوات مثلاً، وتقل المدة في حال صدِّر جزءا منها.
– قبل الاستخراج والاستخدام، ثمة تكلفة لمختلف المراحل والخطوات، تقدّر بمليارات الدولارات.
– حتى يكون الغاز مربحاً، ينبغي أن تكون كلفة استخراجه أقل من سعره، وإلاّ سيكون الاستيراد أوفر مالياً. مؤخّرا تراجع سعر الغاز عالمياً لعدة أسباب، من بينها، الخلاف الروسي – السعودي، وجائحة كورونا، كما أنه تعرّض أكثر من مرة للتذبذب في السعر. وبالتالي فقرار تركيا الاستخراج والاستخدام، ثم التصدير، سيعتمد في كل مرحلة أو توقيت ولو جزئياً – إضافة للكمّيات – على السعر العالمي للغاز
– على الرغم من كل ذلك، لا يمكن التقليل من حدث اليوم، فقد وضعت تركيا نفسها على خريطة الغاز، وباتت تملك غازها الخاص، مع إمكانية اكتشاف الكثير منه مستقبلاً، ما يعدّد من خياراتها، وهذا بحد ذاته مكسب استراتيجي، خصوصاً وأنها تعمل كذلك على رفع نسبة مصادر الطاقة البديلة من تغطية احتياجاتها.
– أخيراً، أنا ممن يعتقد أن العائد الاقتصادي للموضوع، ليس النقطة الأهم، وإنما بُعد التنافس الجيوسياسي في المنطقة،فضلاً عن أهمية ملف أمن الطاقة لأي قوة إقليمية، أو كما قال بعض المتحدثين الأتراك اليوم: تركيا على طريق إضافة، أو استكمال عنصر جديد من عناصر الضرورية لها كقوة إقليمية.