مقالات

أعلام الأمة (3)… د. محمد عبد القادر أبو فارس

الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس (أبو ساجدة)، ابن الفالوجة فلسطين.
لو أردنا أن نلخّص، شخصية الدكتور أبي ساجدة في كلمة لقلنا: الإخلاص. مخلص في عمله، صادق فيه، صافي النية، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله، مضح، لا يبحث عن مكسب ولا مغنم، متجرّد، ليس فيه الأنا ورؤية الذات، وإنما هو كتلة من النشاط، يدأب ولا يتعب ولا يشكو، على سجيته وطبعه وطبيعته، لا يتكلّف، بل يندفع بلا تردّد. كريم شهم، ممتحن مبتلى، ولقد صبر واصطبر واحتسب.
تخصّص في الفقه، وتعمّق فيه ،وكان واسع الاطلاع، سبقنا في الدراسة، وسبقنا في كل خير وفضل. ومن يجاري أو يباري أبا فارس؟!
كان جاري في القاهرة ،وقت دراستي للماجستير وهو للدكتوراه، وكان لا يذهب للسوق أو لأي مشوار، حتى يناديني ،فنصطحب للطريق.
ويوم مناقشة رسالته للدكتوراه، رافقته لإحضار المشرف، وهو من وزن الشيخ أبي زهرة في العلم رحمة الله عليهم، وكان في آخر أيامه، وكان مصاباً بمرض الفيل (تضخم الأقدام)، يكاد لا يستطيع السير، وصحبناه من منزله إلى الأزهر وبالعكس، وكانت رحلة شاقة في كل خطوة لوضع الأستاذ المشرف الذي أشرت إليه. هذا الكلام مضى عليه حوالي نصف قرن. وأنهى أبو فارس مرحلة الدراسة، وعاد ليلتحق من يومها بركب التدريس في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية، وقد ضمّت نخبة من عمالقة الفقه، كالشيخ الزرقا والدريني والدكتور عبدالله عزام، والشيخ محمد نعيم ياسين، ومحمد عثمان شبير، الذي أصبح فيما بعد أحد أعلام فقه المال في العالم العربي والإسلامي، وهو من طلابي وأفخر.
همّة أبي فارس في التأليف، وجلده فيه لا يضارع، فقد أنجز مكتبة في اتجاهات متعددة، لا مجرّد بضعة كتب، على كثرة انشغالاته في همّ الدعوة، والتنقّل والمحاضرات، ومع كل هذا أنجز هذا الإنجاز.
وربّما لشدة صراحته وصدقه ووضوحه ومكاشفته وقوله ما في نفسه دون تزويق أو دوران، كان يُغضب الكثيرين منه، ولكن يشفع له صفاء نيته وصدقه وإخلاصه. فهذه طبيعة وسجيّة عليك أن تعلمها وأنت تتعامل مع أبي فارس. وهو مع ما يبدو أنه قسوة في الظاهر وليست كذلك في الحقيقة، رقة باطن وصفاء سريرة، قلّ نظيره فيما أعلم.
عن نخوته وكرمه وتضحيته وإقدامه ومبادرته وجلده وصبره، حدّث ولا حرج. ولن تكون مبالغاً مهما قلت عنه. من عرفه بدخيلته، أحبّه واحترمه، وقد ربّى تلاميذ مخلصين محبين، لخصاله وإخلاصه بالذات من بين خصاله.
خطيب يصدع بالحق في كل محفل. وقلت إنّ هذا كان يكلّفه أحياناً، وهو لا يقوله ليقال إنه قال. ولكنه يقوله لأنه يرى ذلك واجبه، وهو مخلص لواجبه ،مستعد لبذل الثمن مهما كان.
وهنا تختلف حسابات البشر، وموازينهم ومقاييسهم، وما يقال وما لا يقال، وما يقال كيف يقال.. ونوعيات البشر في هذا وعقلياتهم واعتباراتهم شتى وعديدة لا تكاد تحصى. وأبو فارس نسيج وحده، لا يقبل أنصاف الحلول.
لقد أصبح الشيخ الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس والدكتور عبدالله عزام من معالم صويلح والكمالية، لا تُذكران إلا ويُستحضر هذان العلمان المتميّزان في العلم والفقه والدعوة والكرم والتضحية والسمعة العالمية. فهما معروفان في العالم العربي والإسلامي. رحمة الله عليهما. فأي رجلين علمين عالمين كانا ؟!
في مرضه ،الذي قضى ومضى فيه، كنت أمرّ به وأعوده وأزوره كل بضعة أيام ،وأمكث عنده ما شاء الله أن أمكث، وكنت أمسك بيده، ويمسك بيدي ،ويتشبث ويهم أن يقبّل يدي وأقبّل يده (ويعلم الله كيف كتبت هذه الكلمات!!)، فأين هو مني في منزلته وفضله وعلمه وخصاله، ومن أهمها تضحيته، وأين أنا منه، ومعاذ الله أن يخطر لي مقاربة أو مقارنة!
وعندما حمّ القضاء، وجاء موعد الأجل المحتّم، مضى أبو فارس إلى ربه، فنسأل الله أن يكون راضياً مرضياً. ومن قال إن الأمة لا تقدّر الرجال من قال؟ ولو قلت لك إن يوم جنازته كان يوماً مشهوداً في الأيام معدوداً، لما عدوت الحقيقة قيد أنملة. لقد سدّت الطرق، وتدفّقت الآلاف، وسبحان من زرع في قلوب الناس ،محبّة العلماء المخلصين الداعين.
وأذكر من الجنازات المتميّزة في السلط بالذات: جنازة الشيخ أمين الكيلاني، ومحمد نمر وهبة (ربما قريب من نصف قرن)، ود. عبداللطيف عربيات قبل قريب، ود. محمود أبو دنون (ولعلّي أفرد له حديثاً إن شاء الله وهو يستحق)، ود. راجح الكردي (وسنفرد له حديثاً إن شاء الله)، وغالب أبو عبود أبو أيمن، وغيرهم بالطبع.
وكان ديوان العزاء، طيلة الأيام يحتشد فيه الحشود كل يوم، مما يدلْ على أثر الرجل في النفوس، وما جعل الله له من قبول في القلوب إن شاء الله.
رحم الله أبا فارس ،فارس المنابر والكلمة مقولة ومكتوبة، لكنها دائماً رائدها الحق ،يقولها صاحبها، ولا يسأل عن الثمن ما يكون..
اللهم إنّا نشهد لهذا الرجل، بما نعلم وأنت به أعلم وأرحم، فتقبله وتقبّل دعوته لدينك، واغفر له وأعل منزلته، كما أعلى كلمتك، وسلام عليه في العاملين العالِمين.. وسلام على أبي فارس في العالَمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق