د.شفيق ناظم الغبرا
اثار مقالي المنشور في «القدس العربي»س منذ أسبوعين بتاريخ 9/7/2020 بعنوان «الإخوان المسلمون وقضية الاجتثاث» الكثير من ردود الفعل. فيما يلي مزيدا من الشرح لرأيي تجاه الاجتثاث السياسي والإنساني، فمنذ كتاب عبد الرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، المنشور في العام 1902، وهو ذات العام الذي قتل فيه في مصر عبر دس السم اليه، ونحن نسير في الوطن العربي من استبداد لآخر، دون أن ننجح في تفسير الظواهر، ولماذا تغضب الناس في البلدان العربية، ولماذا تنهار الدول العربية أمام التحديات.لهذا عندما تبدأ بعض التجارب الديمقراطية الإيجابية، علينا أن نتمسك بها ونسعى باتجاهها. إن مشاركة الإخوان المسلمين في المغرب كما في تونس وإخوان الكويت والأردن وإخوان دول عربية أخرى في العمل السياسي السلمي مكسب للتوازن الاجتماعي والحقوق السياسية وتطوير التجربة. المشكلة التي تجعل هذه التجارب صعبة أن الدول العربية ليست معتادة على الشراكة، كما وتخشى التنازل الجزئي عن بعض السلطات. إن من يسعى للاستقرار البعيد الأمد بل والمتوسط يجب أن ترعبه سياسات الاجتثاث لأنها الطريقة الأضمن لعدم الاستقرار في مشهدنا العربي.
تيار الإخوان المسلمين لم يحمل السلاح في مصر رغم نسبة العنف الكبيرة المستخدمة ضده منذ انقلاب 2013 وخاصة مع مجزرة رابعة المؤسفة التي لم يتقبل حصولها الكثير من شخصيات مصر بمن فيهم محمد البرادعي الذي غادر مصر كما غادرها غيره. هذا لا يعني أن تيار الإخوان السلمي لم يخطئ في حسابات الاقتصاد وإدارة الدولة المصرية بعد فوزه في الانتخابات عام 2012، لكن خطأ التيار لا يعالج بالاجتثاث والاحتكار بل بصناديق الاقتراع الحرة وبنفس الوقت عبر منع الاعتداء على الدستور والحقوق السياسية للمواطنين.
ولم تعد الرؤية القطبية (نسبة لسيد قطب)، كما تؤكد التجارب الأخيرة للإخوان في مناطق مختلفة، والتي تركز على الحاكمية وتكفير المجتمع نقطة انطلاق للإخوان المسلمين. لقد كتب قطب كتابه وهو في السجون المصرية. بل رغم القيمة التاريخية الكبرى للرئيس جمال عبد الناصر إلا أن واحدة من أخطاء عهده الكثيرة هو إعدام سيد قطب وتحويل فكره لفكر يقدسه الكثير من الشبان العرب والجهاديين. هذا تأكيد آخر على أن الإقصاء والاجتثاث والإعدام يخلق نتائج عكسية بعد حين.
لقد شكلت مراجعات الغنوشي وعبد الفتاح مورو وهما قادة الإخوان المسلمين في تونس قفزة هامة في تطوير فكر إسلامي يؤمن بالديمقراطية والعدالة ويسير نحوها بلا تردد. إن إنضاج التجربة الديمقراطية في الإقليم العربي وانخراط الإسلاميين بتنوع أفكارهم في تلك التجربة هو الأهم، وهذا ما يجب أن يتمسك بها الديمقراطيون العرب.
إن مجتمعنا العربي كما والخليجي مليء بالإصلاحيين، ويعج بأصحاب الرؤى المتوازنة للعلاقة بين الدولة والمجتمع وبين التيارات المختلفة، لكن الحساسية العربية من السياسة والتعبير والنقد جعل هذه الآفاق مكتومة بالكامل. وهذا يجعل التوتر سيد الموقف كما ويفتح الباب لضعف المساءلة التي تؤدي للفساد. فعلى سبيل المثال كان يجب تشجيع استقلالية إخوان السعودية وطرحهم منذ الألفية الثانية لرؤى ديمقراطية إصلاحية. لقد عبر عن تلك الرؤى كل من الشيخ سلمان العودة والمرحوم عبدالله الحامد، الناشط محمد القحطاني وعشرات غيرهم بمن فيهم الحقوقيون والحقوقيات السعوديون. هكذا بصبح السؤال: لماذا هذا النقص الكبير، ولا أقصد هنا فقط التجربة السعودية، في التجارب العربية في تبني توجهات الإصلاح من الأسفل للأعلى في مجتمعات تتعطش للمساءلة وللحريات وللكرامة الإنسانية؟
في فهم الإخوان لابد من الدخول في تحليل طبقي. فمن هي الفئات الاجتماعية التي تحولت للإخوان ثم للتيار الإسلامي بشقه السني ثم بشقه الشيعي؟. سنجد طبقات وسطى ودون الوسطى، وسنجد خريجي مدارس تقليدية ودينية وجامعات وكليات علمية وسنجد أيضا طبقات شعبية من المدن كما والريف والبادية. إن إهمال هذه الفئة الشعبية ليس بمصلحة المستقبل، بل لا بد من الحوار على أسس التغير السياسي والإصلاح.
إن عدم تحرك القوى الليبرالية لتنظيم صفوفها وتبني تطوير المجتمع وطرح توازنات جديدة وفتح حوارات بناءة هو ما يعيب هذا التيار. فتلك القوى لم تعرف كيف تمثل قضايا الناس، بل التزم جزء كبير من تلك القوى بالعليائية تجاه المجتمع وتجاه قيمه ومقدساته، فهي لم تعرف كيف تخاطب الناس والطبقات الشعبية ولم تعرف كيف تمثل تطلعات مجتمعاتها، بل إن بعض القوى شبه الليبرالية (باستثناء الليبرالية المـؤمنة بالعدالة والحقوق والديمقراطية) تقدس الاجتثاث المحلي وتدعو اليه.مشاركة الإخوان المسلمين في المغرب كما في تونس وإخوان الكويت والأردن وإخوان دول عربية أخرى في العمل السياسي السلمي مكسب للتوازن الاجتماعي والحقوق السياسية وتطوير التجربة
هنا يبرز السؤال الأهم: كيف تتوقع هذه القوى، أن يكون لها زخم مؤثر في المجتمعات العربية بينما تستجدي الدولة والنظام السياسي والسلطات لتصفية تيارات سياسية شعبية شريكة لها في الوطن. قمة العجز أن تستجدي بعض الفئات شبه الليبرالية الدولة لأنها تعجز عن المنافسة أو أن تستجدي الصهيونية في قبولها لصفقة القرن التصفوية. بل يسيء للمدرسة الليبرالية العربية والخليجية أن يرتبط اسمها بدعم الاجتثاث وغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان في طول الوطن العربي وعرضه. فالليبرالية أساسها الإيمان بالحريات والحقوق وتكافؤ الفرص والعدالة.
إن عدم متابعة التغيرات الواقعة في قواعد وتوجهات التيار الإسلامي وتيار الإخوان المسلمين بكل تنوعه تعبير عن الكسل والخمول عند عدد من المثقفين العرب. إن قراءة متزنة على سبيل المثال لكتاب مضاوي الرشيد الأكاديمي بعنوان «حداثيون مكتومون»، سيغني عن أطنان من الحوارات عن طبيعة التحولات في أحد اكثر تيارات الإسلام السياسي التزاما بالدين والشريعة في المملكة العربية السعودية، سنجد كتابات شبيهة عن كل مجتمع عربي من المغرب لتونس وغيرهم. المجتمعات تتغير وهي ليست أمرا ثابتا، والتيارات السياسية خاصة مع الأجيال الصاعدة هي الأخرى في حالة تغير وتحول.
لقد تعلمت عبر الوقت أن الصدق والوضوح ضرورة لمن يحب وطنه. يجب أن نتحدث بمرونة، لكن يجب أن نتحدث بوضوح للأقوياء والمـؤثرين وليس للضعفاء والمضطهدين في المجتمع. بل إن المنطق الأسهل الذي يفضله بعض المثقفين العرب هو التخصص في مهاجمة الضعفاء وفاقدي السلطة بينما قلما يوجهون حديث النقد للسلطات والقادة العسكريين المتحكمين بكل شيء في دول عربية شتى. إن الأقوياء والإداريين وأصحاب السلطة لديهم كل المقدرة على تغيير التاريخ والواقع، فقرارهم سيؤثر على الجميع وهو الذي سيؤدي للدولة الفاشلة أم الدولة العادلة والناهضة. بلا نقد القوة وبلا المقدرة على فتح الحوار معها والتحذير من عواقب الاستمرار في النهج العربي الراهن، فنحن نقف وسط بركان يقترب من الانفجار.
يجب ان لا نفقد الأمل في التأثير الإيجابي على النخب الواعية والمـؤثرة، لكن بنفس الوقت يجب الحذر من الانخداع بالنماذج السلطوية في منطقتنا والتي تحرض على الاجتثاث. لقد تمت تجربة الاجتثاث من قبل قادة كالقذافي وصدام حسين وحافظ الأسد والبشير وغيرهم، فماذا حصل وأين وصلنا؟ يجب الحذر كل الحذر من النماذج التي لا تترك فسحة حقوقية صادقة تسمح بالنقد وتطور المجتمع والحقوق.
مشروع الدولة ومؤسساتها لن ينجح في بلادنا العربية بلا سياسة الاستيعاب وبناء خيوط الحوار. ولو درسنا حالة التيار الديني الشيعي سنجد أنه أيضا يجب أن يمتلك الحق بالنشاط السياسي ضمن قواعد وطنية واضحة متفق عليها، فهو جزء من نسيج المجتمع وجزء من الحياة السياسية. فالدولة يجب أن لا تكون شيعية أو سنية أو مارونية وغيره، بل تعددية لديها مرجعيتها الثقافية العربية والوطنية، وإن كانت الأغلبية من المسلمين فمن الطبيعي أن يكون لديها مرجعية إسلامية بشرط أن تكون منفتحة على الاخر و تتسع للجميع وتحترم الحقوق والكفاءة.
يجب أن نسعى لدول قوية في استقلالها في ظل إجماع مجتمعي جديد وتوازنات سياسية تعددية وديمقراطية، وهذا يتطلب الاستيعاب أولا وثانيا مواكبة التحولات في ظل الامتناع عن التضليل الإعلامي وشيطنة كل من تختلف معه سياسيا وفكريا. المصدر: القدس العربي