مقالات

أفغانستان:مؤشّرات مرحلة جديدة تدار بقواعد جديدة

د. رلى الحروب*
اعترف منسق الشؤون الخارجية للاتحاد الاوروبي بانتصار حركة طالبان في الحرب، كما اعترف بهذا النصر الرئيس الامريكي جو بايدن الذي قال : إن أفغانستان مقبرة الغزاة، وإنه لا يريد توريث هذه الحرب المستنزفة للموارد لرئيس خامس، وأكّد الأمر ذاته الناطق باسم البيت الابيض ،حين قال إن حركة طالبان تحظى بتعاطف أكثرية الأفغان، وإننا كنا نخسر الأرض لصالح طالبان، حتى بوجود 15 ألف جندي أمريكي هناك، والرئيس بايدن لا يريد إرسال مزيد من الجنود.
أما ممثّل الناتو، فقد حمّل الحكومة الأفغانية ،والقوات الافغانية مسؤولية سقوط كابول، قائلا: إنهم هم من لم يقوموا بواجبهم، في حين إن جنودنا الشجعان قاموا بواجبهم،والعجيب أن الناطق باسم حركة طالبان قال: إننا حضرنا إلى كابول لضبط الأمن والنظام، وإن الرئيس الأفغاني أخلّ بتفاهماته ،وفاجأنا بإخلاء كل المواقع الأمنية . والسؤال هنا: تفاهماته مع من؟!خاصة وأن هذه العبارة تناقض ما قاله الرئيس بايدن، الذي صرّح قبل يومين، بأنه نصح الرئيس الأفغاني بالتفاهم مع طالبان، ولكنه اختار المواجهة!
هذه الهزيمة التاريخية للولايات المتحدة، وقوات حلف الاطلسي ،بكل ما يملكونه من تكنولوجيا، وتفوّق عسكري في صحراء وجبال وأوديّة وكهوف وقرى أفغانستان، دليل تاريخي جديد على أن أصحاب الأرض لا بد وأن يدحروا الغزاة، مهما بلغ عدهم وعتادهم، وأن أهل مكة أدرى بشعابها فعلا، خاصة وأن جميع الأطراف، قد أقرّت بهزيمتها الاستخبارية والأمنية في قندهار.
أمّا الدرس الثاني المستفاد، فهو أن حركة طالبان، أثبتت أنها متجذّرة في ثقافة المجتمع الأفغاني وقيمه ،وهو ما يفسّر عدم قدرة الحلفاء طيلة 20 عاما، على اختراق معاقلها وأسرارها،وتبيّن أنها تحظى بتعاطف الأكثرية ،باعتبارها حركة مقاومة تقاوم الغزاة، في بلد ثقافته التاريخية، تقوم على تمجيد تلك المقاومة، وهو ما يفسّر انسحاب الجيش الافغاني والقوات الامنية الأفغانية من كابل ،دون مقاومة في مواجهة الحركة، والتخلّي عن بزّات يبدو أنهم لم يؤمنوا بها بالأساس .
الدرس الثالث المدهش ،هو مقدرة تلك الحركة، التي تبدو بسيطة في لباسها وعتادها ومظهرها على نشر شبكة استخبارية فعّالة في طول البلاد وعرضها، وتعلّم الدروس والاستفادة منها طيلة سنوات الحرب، وتجييرها لصالحها، وإظهار المرونة أخيرا بعد سقوط البلاد، بأيدي مقاتلي الحركة مجدّدا في التعامل مع الأمريكان والحلفاء والمجتمع الدولي بالشكل الذي تابعناه، من حيث بناء توافقات على سلوكهم القادم والتعهّد بعدم استخدام أراضيهم للهجوم على أي دولة، وتقديم وعود بحفظ الأمن لجميع الاطراف، والحفاظ على تلك الوعود والتوافقات،وإظهار ضبط النفس ،والتسامح مع المتعاملين مع الحلفاء والخصوم السياسيين في الداخل، ودعوتهم للعودة إلى أفغانستان مع ضمان سلامتهم، بل وإشراكهم في الحكومة الجديدة التي يراد لها أن تمثّل الجميع.
كل هذا، يؤكّد أن الحركة قد تعرّضت لإعادة تاهيل فكري وسلوكي خلال الأعوام الماضية، قد يكون للدوحة وجهات أخرى في المنطقة اليد الطولى فيه.
يبقى أن نراقب كيفية سلوك الحركة تجاه الأقليّات العرقية والدينية، وتجاه المراة الأفغانية على وجه الخصوص،التي حقّقت مكتسبات خلال العقدين الماضيين،لا ترغب ولا يرغب أحد بالنكوص عنها، وهو التحدّي الحقيقي إلى جانب تحديات بناء الدولة وإطلاق الحريات ،الذي سيظهر إلى أي مدى ترغب الحركة في الظهور بمظهر حكومة في دولة حقيقية، وليس حركة دينية متطرّفة،ومتعصّبة، ومسلّحة في بلد خارج السياق الزمني لمحيطه.
على وجه العموم، وبغض النظر عن الدوافع الحقيقية لانسحاب الجيش الأمريكي وقوات الناتو، وعن الأدوار القادمة التي يتوقّع أن تلعبها الحركة ،وربّما حركات وتنظيمات إسلامية غيرها في المنطقة خلال العشرية القادمة، في ظلّ المعادلات الدولية والإقليمية الجديدة، وتغيّر خرائط التفاهمات والتحالفات والاصطفافات، جرّاء تغيّر أولويات الصراع، الذي تديره القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في عالمنا، فإن المشهد في كابل تاريخي ومفصلي، وهو في ثناياه مشابه تماما لجائحة كورونا، يشي بتشكل عصر جديد، يدار وفق قواعد جديدة للعبة الأمم.

*نائب سابق في مجلس النواب الأردني

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق