بقلم : د. محمّد الفقيه*
قال تعالى: ( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ) النساء/34
والمتتبع لكتب التفسير القديمة، يجد بأنها أجمعت على مشروعية ضرب الزوجة في حال النشوز، ولكنها اختلفت في كيفية الضرب، والسبب الذي دفعهم لتفسير لفظة فاضربوهن ، بأن المقصود بها الضرب الجسدي ، أنهم عكسوا المعنى العرفي السائد في المجتمعات على تفسير الآية بهذا الاتجاه ، ولكن الأولى أن نفسّر ألفاظ كلمات الله من داخل النص القرآني ، وفي هذه الحالة علينا أن نحصي الفعل ضرب ومشتقاته في كتاب الله لنرى في أي السياقات جاءت لفظة ضرب ومشتقاتها ، وقد تتبعتها في كتاب الله فوجدتها وردت 58 مرة بصيغ متعددة، وهي لم تخرج عن الصيغ الآتية : اضْرِب اضْرِبُوهُ أَفَنَضْرِبُ تَضْرِبُوا ضَرَبَ ضَرَبُوا ضَرَبُوهُ ضَرَبْتُمْ ضَرَبْنَا ضَرْبًا ضُرِبَتْ فَاضْرِب فَاضْرِبُوا فَضَرَبْنَا فَضَرْبَ نَضْرِبُهَا وَاضْرِبُوا وَاضْرِبُوهُنَّ وَاضْرِبْ وَضَرَبَ وَضَرَبْنَا وَضُرِبَتْ وَلْيَضْرِبْنَ وَيَضْرِبُ يَضْرِبَ يَضْرِبُونَ يَضْرِبْنَ ، وهي لا تخرج في معانيها غالبا عن المفارقة ، والمباعدة ، والانفصال والتجاهل , خلافا للمعنى المتداول الآن لكلمة (ضرب ) , فمثلا الضرب على الوجه يستخدم له لفظ ( لطم ) , والضرب على القفا ( صفع ) والضرب بقبضة اليد ( وكز) , والضرب بالقدم ( ركل) ، وفي المعاجم : ضرب الدهر بين القوم أي فرّق وباعد , وضرب عليه الحصار أي عزله عن محيطه ، وضرب عنقه أي فصلها عن جسده ، فالضرب إذن يفيد المباعدة والانفصال والتجاهل ،، والعرب تعرف أن زيادة (الألف) على بعض الأفعال تؤدّي إلى تضاد المعني : نحو (ترِب) إذا افتقر و (أترب) إذا استغنى , ومثل ذلك (أضرب) في المكان أي أقام ولم يبرح (عكس المباعدة والسياحة في الأرض) ، اسمع معي : ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى) طه/ 77 , أي افرق لهم بين الماء طريقا ، وقوله تعالى : (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) الشعراء /63-67 , أي باعد بين جانبي الماء ، والله يقول : (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ) أي مباعدة و سفر, وقوله تعالى : ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ) المزمل/ 20, وقوله تعالى : ( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) الحديد/ 13, أي فصل بينهم بسور، وضرب به عُرض الحائط أي أهمله وأعرض عنه ، وهذا هو المقصود بقوله تعالى : وَاضْرِبُوهُنَّ وهذا ما ينسجم مع سياق الآية الكريمة ، حيث تبدأ المرحلة الأولى في حال النشوز بالوعظ والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإذا استنفذت هذه المرحلة لجأنا الى المرحلة الثانية وهي الهجر في المضاجع ،والمقصود بها أن لا يخرج داخل الفراش ولا يجوز أن يهجر الزوج فراش الزوجية ، فإذا استنفذت هذه المرحلة ،لجأ الزوج الى المرحلة الثالثة وهي الضرب ، والضرب المقصود هو الإعراض عن فراش الزوجية والابتعاد عنه ، وهذا ينسجم تماما مع المراحل السابقة ولا يتنافر معها ، والذي يدعم هذا المعنى أن المرحلة التي تلي هذه المرحلة هي تدخّل المصلحين من أهله وأهلها لتسوية الخلاف بينهما ، وبعد هذه المرحلة إذا استشرت الخلافات وتعكّرت الأجواء ولم تجد جميع المراحل السابقة ،حينها يتم اللجوء الى الطلاق الذي آخر المراحل .
وبناء على ذلك ،استعمال العنف والضرب للزوجة ولغير الزوجة ليس له أساس في كتاب الله ، فالعلاقة بين الزوجين هي علاقة قائمة على عقد شرعي مبني على تعاليم كتاب الله وما وافقه من السنة النبوية ، فالضرب عقوبة غير مشروعة ، حتى الدواب والبهائم لا يجوز ضربها في شرع الله ، فكيف يمكن أن يشرّعها الله تعالى للزوجة التي جعلها الله أمانة ببيت زوجها، وجعل منها وفيها السكن والرحمة والمودة
ولقد ذهب الى هذا التفسير بعض المفكّرين المعاصرين .
* أردني مهتم بالفكر الإسلامي.
* (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).