تقارير و تحليلاتعام

تايوان للمرة الأخيرة

بقلم: د. وليد عبد الحي*
بعد أسبوع واحد من بدء العملية العسكرية الروسيّة في أوكرانيا(نهاية شباط/فبراير هذا العام)،كتبت مقالا عن أن الجبهة القادمة ستكون في تايوان،وقل إن الأزمة ستبدو أكثر وضوحا في تفاعلاتها والتوجّهات الاستراتيجية لأطرافها ،خلال الفترة بين تشرين أوّل( أكتوبر)/ تشرين ثاني ( نوفمبر)القادمين ، مع انتهاء المؤتمر السنوي العشرين للحزب الشيوعي الصيني .
وتمثّل أزمة تايوان نموذجا للتعقيد الهائل في بنية العلاقات الدولية المعاصرة والتحوّل فيها من المنظور الصفري إلى المنظور غير الصفري( حيث تصبح الموازنة بين المصالح المتناقضة والمصالح المشتركة أكثر صعوبة)،وهو ما يستدعي البعد عن النزق المعتاد في فهم العلاقات الدولية استنادا للنموذج التاريخي الذي نهشته العولمة وفيضان الترابط العضوي ،بخاصة الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي على حساب الترابط الآلي،ولكن بكيفية غير خطيّة بالمنظور قصير الأجل، وبكيفية خطيّة صارمة بالمنظور طويل الأجل.
ولفهم ما يمكن أن تؤول له الامور لا بد من رصد ملابسات الموضوع:
أولا: الموقف الأمريكي:
1- يمكن اعتبار الغطاء القانوني للعلاقات الأمريكيّة-التايوانية أبرز نقاط الضعف في الاستراتيجية الامريكية، فمنذ فترة السبعينات من القرن الماضي، أقرّت الولايات المتحدة بمبدأ “الصين الواحدة”، والذي يعني أن تايوان ليست دولة مستقلة ذات سيادة ، بل هي إقليم جغرافي وجزء لا يتجزأ من الصين الكبرى، وعليه فإن أي علاقة بين هذا الإقليم وبين الولايات المتحدة دون المرور ببكين، هو تدخّل واضح وخروج على مبدأ الصين الواحدة، وتدعم ذلك بقرار الجمعية العام للامم المتحدة رقم 2758، وتجلّى انعكاس ذلك في أن مبادرة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لإنشاء ما أطلق عليه الإطار الاقتصادي الهندي الباسيفيكي( Framework Indo-Pacific Economic) في عام 2022، ويضم 14 دولة لها 40% من إجمالي الناتج المحلي العالمي استثنت ضم تايوان، نظرا لتخوّف بعض الأعضاء على علاقته مع الصين، ولعلّ ذلك هو ما دفع 200 نائب ، و52 من الشيوخ ،لتوجيه طلب للرئيس بايدن لضم تايوان للإطار، آخذين في الاعتبار حجم اللوبي التايواني في الإدارة الأمريكية. ولعلّ تجربة إقليم هونغ كونغ يشكّل سابقة تاريخية وقبلها جزيرة (ماكاو )على أن الموقف الصيني أكثر اتّساقا مع المبادئ التقليدية في العلاقات الدولية.
2- التذرّع الأمريكي بحماية الديمقراطية ، وهي ذريعة أفرزها التحايل البراغماتي لتبرير التدخّل ، فلو كانت الديمقراطية هي المحرّك الفعلي، فكيف نفسّر وطبقا لأكثر من عشرين مرجعا أمريكيا وغربيا أن عدد الدول المصنّفة “بالديكتاتورية” حتى عام 2021 هي 49 دولة(من بين ال 194 دولة في الامم المتحدة) يتلقّى منها 36 دولة ديكتاتورية مساعدات أمريكية، أي أن 73% من ديكتاتوريات العالم تتلقّى مساعدات امريكية؟ ذلك يعني أن الذريعة الأخلاقية ،لم تعد مقبولة أو مقنعة بل اصبحت أقرب للتفاهة.
3- تواجه الولايات المتحدة حاليا، ثلاث أزمات كبرى متداخلة هي:
أ‌- الحرب الأوكرانيّة- الروسية ،والتي يبدو أن روسيا تحقّق فيها قدرا من الأهداف التي رسمتها منذ 2014.
ب‌- الوضع الاقتصادي الأمريكي بملابساته الطاقوية وارتفاع الاسعار والتضخّم وأعباء مساندة الدول الأوروبية التي بدأت تئن من وطأة الحرب الأوكرانيّة.
ت‌- تأجيج الأزمة التايوانية ودفعها نحو تداعيات غير مأمونة.
ويكفي أن نشير إلى أن ان حجم التبادل التجاري الأمريكي- التايواني عام 2021 ،بلغ حوالي 114 مليار دولار ، بزيادة تعادل 80% عن حجمها قبل عقد من الزمن، وحجم التجارة الاوروبية مع تايوان هو 53 مليار دولار، وكلا التجارتين (الأمريكية-الأوروبية ) مع تايوان تعادل 167 مليار دولار ، وهو ما يساوي 29% من حجم التجارة الأمريكية الصينية، التي وصلت مع نهاية عام 2021 الى 577 مليار دولار ،وبعجز تجاري لصالح الصين يصل إلى حوالي 426 مليار دولار.
ثانيا: الموقف الصيني:
في دراستي عن المكانة المستقبلية للصين والصادرة عام 2000(أي قبل 22 سنة)،قمت برصد تنبؤات عشرين من علماء الدراسات المستقبلية وزعماء دول الشرق الآسيوي، وتبيّن أن العشرين مفكرا وزعيما أجمعوا بنسبة تامة، أن الصين لن تتخلّى عن تايوان، تحت أي ظرف من الظروف،لكن خمسة منهم رجّحوا المواجهة العسكرية بين الصين والولايات المتحدة ، بينما راى( 7 )منهم أن التوتّر حول تايوان سيتراجع( دون تراجع الصين عن السيادة عليها)،بينما رأى ( 8 )منهم أن الأمور ستبقى على حالها.وهنا لا بد من الإشارة للمظاهر التالية:

أ‌- تمثيل تايوان في مؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني منذ 1997 (عدد أعضاء الحزب 92 مليون عضو)، ففي الهيئة العليا للحزب- اللجنة المركزية- هناك لجنة عمل تايوان التي يوكل لها رسم السياسات الخاصة بتايوان، وهناك (8) ممثّلين لتايوان في اللجنة المركزية للحزب ،وعليه فإن الصين تتعامل مع تايوان كإقليم متمرّد يقوده ما تسميهم “الانفصاليين”،أي أن الصين تتعامل مع تايوان كأي اقليم صيني آخر.
ب‌- ما الذي ستجنيه الصين من ضم تايوان
1- اقتصاديا: يصل إجمالي الناتج المحلي التايواني حاليا إلى حوالي 700 مليار دولار، ويقدّر وصوله إلى 725 مليار مع نهاية عام 2023، من ناحية أخرى فإن حجم التبادل التجاري بين الصين الأم وتايوان يشير إلى تزايد واضح في صادرات تايوان للصين، فقد ارتفعت من حوالي 85 مليار عام 2011 إلى 126 مليار عام 2021، فإذا أضفنا صادرتها إلى هونغ كونغ ،يكون المجموع قرابة 189 مليار دولار.
2- تكنولوجيا: تستفيد الصين من التقدّم الصناعي التايواني، لا سيّما في مجالات حسّاسة، مثل الرقائق الالكترونية، ناهيك عن استغلال الروابط التقنية بين تايوان والولايات المتحدة.
3- ضم تايوان سيلجم النزعات الانفصاليّة في مناطق صينية أخرى.
4- السيطرة على مضيق تايوان، سيعطي للصين ميزة تحكم استراتيجية في هذا المضيق المهم.
الخلاصة:
في ظل المعطيات الدولية، فإن الضغوط الاقتصادية والسياسية والاعلامية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين ، ستتصاعد بينهما من ناحية وبين الصين وتايوان من ناحية أخرى، ويبدو أن الصين في وضع تفاوضي أفضل من الولايات المتحدة، لاسيّما أهميّة الجوار الجغرافي بين الصين وتايوان ، فالمسافة بين الصين وتايوان هي 160 كيلو متر، بينما المسافة بين أقرب قاعدة أمريكيّة (وهي قاعدة أوكيناوا اليابانية) وبين تايوان تصل إلى 500 كيلومتر،أي أكثر من ثلاثة أضعاف المسافة بين الصين وتايوان.
كما أن الإقرار الأمريكي بصين واحدة ، جعل الموقف الامريكي أقرب للالتباس ،ناهيك عن تخوّفات واضحة من الكثير من دول الشرق الآسيوي،من أن التوتر مع الصين قد يقود لأوزار أكبر مما يبدو للوهلة الاولى، ويمكن ان نضيف الى ذلك عوامل استراتيجية هامة مثل:
1- إن الموقف الصيني مقبول أكثر من الناحية القانونية من الموقف الروسي في اوكرانيا.
2- إن المساندة الروسية للصين، وانشغال إمريكا بالأزمة الأوكرانيّة سيعزّز الموقف الصيني.
3- إن الوجود الأمريكي في القواعد العسكرية اليابانية، ليس موضع ترحيب كاف من اليابانيين، وبخاصة في القاعدة الأكبر في اوكيناوا،إلى الحد الذي جرت فيه مناقشات سابقة لنقل هذه القاعدة إلى تايوان، التي لا يوجد فيها قوات عسكرية امريكية خارج نطاق الخبراء والمدربين.
4-إن درجة التوافق بين هيئات صنع القرار في الصين وبين المجتمع الصيني على الموضوع التايواني أعلى كثيرا من درجة التوافق بين هيئات صنع القرار الامريكي والمجتمع الامريكي.
لذا ، يبدو من الصورة الأولية أن الولايات المتحدة، هي الأميل للتراجع التدريجي ، وقد تحاول تغطية هذا التراجع ببعض مشاهد عرض العضلات، مع احتمال القبول الامريكي لاحقا بضم تايوان على غرار المنهج ذاته مع هونغ كونغ(أي دولة واحدة بنظامين) تجنّبا للحرب العسكرية الشاملة التي ليست الولايات المتحدة في وضع رفاه لخوضها .
النقطة الاخيرة، يبدو لي أن الحرج الاسرائيلي في تحديد الموقف من الأزمة هو أمر مقلق للغاية في ” إسرائيل، والحرج هنا أكثر تعقيدا من الحرج الذي واجهته الدبلوماسية الإسرائيلية في الموضوع الأوكراني ، ويبدو أن خيارت ” إسرائيل”في التعاطي مع هذه الأزمة” أحلاهما مُرٌ “…ربما !

* باحث وأكاديمي أردني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق